يحكي ماركيز أنه كان يقيم في المكسيك لفترة من الفترات، لحضور مؤتمر أدبي. ويعترف أنه في ذلك الوقت- لم يكن قد أصدر سوي رواية "ليس لدي الكولونيل من يكاتبه" و"جنازة الأم الكبيرة". وأحس بعد ذلك أنه يقف في حارة سد، عاجزا عن اكتشاف دروب أخري لإبداع جديد، وكان يعاني تحت وطأة هذا التوقف، حتي فوجئ ذات ليلة بصديقه الحميم الكاتب الكولومبي ألبارو موتيس يصعد ستة أدوار من البناية التي يقيمون فيها، ولم يكن بها مصعد، وهو يحمل رزمة من الكتب، اختار اصغرها وصاح متهللا: خذ هذه اللعنة واقرأها كي تتعلم! ولم تكن هذه الرواية سوي "بدرو بارامو". لم تنته الحكاية التي ينقلها المترجم محمد إبراهيم مبروك عند هذا الحد، فبعد أن أخذها ماركيز يقول:"لم أنم ليلتها إلا بعد أن قرأتها مرتين. وظللت طوال الستة أشهر الباقية من العام بعدها غير قادر علي قراءة أي عمل أدبي آخر" وكان ذلك في الفترة التي سبقت كتابة "مائة عام من العزلة". هذا هو الإبداع الذي لايبقي القارئ بعد قراءته هو القارئ نفسه قبل قراءته، وأعتقد أنها القاعدة الأساسية الحاكمة لاختيارات فريق عمل سلسلة "المائة كتاب" التي يرعاها ويحرسها بدأب يحسد عليه الشاعر رفعت سلام، والتي تعتبر في نظري من أهم الأحداث الثقافية في العام المنقضي إن لم تكن أهمها علي الاطلاق. السلسلة التي بدأت مع مطلع العام برائعة ثربانتس "دون كيخوته" قدمت حتي الآن ثمانية عناوين لايمكن أن تقول عن أي منها أنه قليل الأهمية، أو يمكن الاستغناء عنه، ولن تفكر مرتين إذا صادفت أيا منها في أي مكتبة أو فرشة جرائد، حتي لو كنت تملك ترجمة سابقة، فمن المزايا الكبري للسلسلة غير اتاحتها لهذه الاعمال الخالدة باسعار رمزية أنها تؤكد علي أهمية اعادة النظر في الترجمات القديمة، واعادة النظر في كثير المصطلحات التي كانت مستخدمة، بالاضافة لأنها تعيد أيضا نشر بعض الروائع التي لم تترجم من قبل. بؤس الترجمة الحديث عن هذا المشروع يستلزم البدء بالترجمة. يقولون إن نهضة الغرب الأولي قامت علي يد الترجمات من العرب، ربما يكون هذا صحيحا، لكننا بالتأكيد انعزلنا وانفصلنا وتقوقعنا علي أنفسنا فسبقنا الركب بسنوات، وللأسف حتي عندما اكتشفنا ذلك وحاولنا ملاحقة الركب اتبعنا أساليب عشوائية أضرت أكثر مما أفادت، مشاريع الترجمة مثلا أصبحت الآن عصية علي الحصر، لكنها جميعا تعمل بالمنهج نفسه، فتكررت الأخطاء، والعناوين، فما يترجم في مصر ربما لا يصل لغيرها، وما يترجم في غيرها لا يصلها، بالإضافة لضعف التراجم أحيانا، وتعثر المشاريع في كثير من الأحيان. سلام نفسه يعترف بأن أحد الدوافع الأساسية لهذا المشروع هو التخبط والبؤس الواضح في عملية الترجمة في مصر، يقول في تقديمه للسلسة في العدد الثاني منها إن نظرةً متأملة لتاريخ الترجمة المصرية والعربية- في القرن العشرين- ستكشف ما سادها من عشوائية، رغم بعض الجهود الكبري الجديرة بالاعتبار (من قبيل سلسلة "الألف كتاب" الأولي، علي سبيل المثال)، واعتماد جهود الترجمة علي "الفردي"/الذاتي في اختيار العمل المترجَم، والافتقار إلي استراتيجية واضحة من قِبل المؤسسات المعنية، والتفاوت المذهل في مستويات ترجمة الأعمال الثقافية الرفيعة، بما أدي- في كثير من الأحيان- إلي تشويه هذه الأعمال مصريًّا أو عربيًّا. هذه الوضعية المركبة هي التي أدت- مع عوامل أخري- إلي افتقار المكتبة المصرية والعربية لترجمات رصينة، موثوقة، لعدد لا يُستهان به من عيون الثقافة العالمية، والافتقار- بالتالي- إلي المعرفة الأساسية بهذه الثقافات والأعمال الكبري. وهو ما يعني أن ثمة فجوات "معرفية" ليست هينة تعاني منها ثقافتنا المصرية/العربية في بنيتها الأساسية، نتيجة للفجوات الناجمة عن فعل الترجمة، وفجوات "معرفية" ليست هينةً لدي الأجيال المختلفة، بفعل عدم توفر الترجمات الرصينة للأعمال الرفيعة التي سبق ترجمتها في الماضي القريب. وذلك ما لم تسمح به الثقافات الأخري. آلية الاختيار يقول سلام إنه حين تأمل القوائم التي تقدمها الثقافات المختلفة لأهم الكتب والأعمال الروائية والشعرية والكلاسيكية، اكتشف الفجوات في ثقافتنا الحديثة؛ فثمة أعمال ليست مطروحة علي المعرفة الثقافية لدينا، وأعمال قد تكون معروفة بلا ترجمة، وأعمال سبق ترجمتها ترجمة رديئة أو متوسطة، وأعمال- وهي الأقل- نمتلك ترجمات رفيعة لها، وإن كانت غير منتشرة أو متاحة بصورة معقولة للقراء (من قبيل "الكوميديا الإلهية" لدانتي، و"عوليس" لجيمس جويس، و"دون كيشوت" لسيرفانتيس، وغيرها) من هنا نشأت فكرة سلسلة "ال100 كتاب"، كسلسلة داخل سلسلة آفاق عالمية: سلسلة تعني بتقديم أهم مائة عمل ثقافي في التاريخ، استنادًا- بالأساس- علي حصاد تلك القوائم المستقرة عالميًّا، للتوصل إلي قائمة مصرية/عربية، كنوع من إعادة صياغة وتمتين "البنية الأساسية" الثقافية والمعرفية لدينا. لكن بعد أن صدرت حوالي خمسة أو ستة عناوين، وكثرة الاستفسارات عن آلية الاختيار ومعايير الترجمة أنشأ سلام صفحة علي فيس بوك داعيا جميع المهتمين لاختيار أهم عشرة كتب من وجهة نظرهم لاعداد قائمة بالكتب التي يمكن أن تنضم إلي المشروع ولتصدر المائة كتاب بديموقراطية كاملة وبطريقة غير مسبوقة، ولازال سلام حتي الآن يستقبل العناوين ولم يعلن عن القائمة النهائية بعد.