كنت أمزق ورقا، وعذابات، وتصاوير. مبددة كل الأشياء بذاكراتي.. والظل - هناك - يراوغ.. كيف أجيء؟! وأشجاري لم تطفيء لون الشمس؛ فأحرق في حصيدا يبيسا. أتلوي - وحدي - تحت سماء الله وصبح لا أعرفه وحدي والخريف قريب من الروح.. إذا ما استفاقت قليلا: تهاوي عليها بخمر كطعم الزجاج المكسر.. دوما قريبا.. وعيناك، ابعد مما حسبت. يا نازعة روحك من ضيق ممري. كيف تركت روحي تلهث خلف ضباب؟! مدن تصعد من غليان جماجمنا.. كل عيون تنظر فينا تقتل حلما! كيف أتيت؟! وكل عيون الناس كإبر كيف أتيت؟! - مساء الخير - هل تطهين الفرح أم الأحجار؟ خبز.. شيء غامض.. وظلام يتوسده القمر.. وقلق ينبت في راحتيك، يقطب مني الرغبة في أن أمضغ شيئا مجهولا.. رب فؤادك.. أو أحجار.. رب الموت. أما حالة خالد سعيد فقد كانت استثناءاً لما سبق. لم يكن هناك فيديو، كما أن الأمر المؤثر أكثر لم تكن صورة جثة خالد بعد الضرب وتشريح الطبيب الشرعي الذي قال أنه قد مات نتيجة الاختناق. كانت الصورة الأكثر تأثيراً صورة خالد قبل الحادثة كشاب وسيم لا يزال في بداية حياته يبتسم متفائلاً. المسافة بين الصورتين كانت هي الأكثر تأثيراً. حالة خالد سعيد كان نقلة جديدة في عصر الصور الذي نعيش فيها، فالصورة هنا لا تلعب علي مساحة الكشف بل علي مساحة الخيال. تترك الصورتين المساحة للمشاهد ليتخيل بشاعة ما حدث، لهذا كان أثر حادثة خالد أقوي من أثر حالات التعذيب الآخري. ولهذا كان اهتمام الإعلام بقضية خالد أقوي من اهتمامه ببقية قضايا التعذيب حتي تلك التي تكشفت بعد حادثة خالد.
بعد أيام قليلة من الكشف عن واقعة تعذيب الشاب خالد سعيد في الإسكندرية، ظهرت حالات جديدة في مناطق مختلفة منها عبد السميع صابر صاحب "كشك" لبيع المرطبات والحلويات في مدينة نصر، والذي في خلاف مع رئيس الحي قام عدد من ضباط الشرطة بإلقاء القبض عليه بالرغم من تسديده للرسوم المقررة وصحة جميع أوراقه. حتي أن النيابة قد أمرت بإخلاء سبيله في نفس اليوم الذي ألقت فيه الشرطة القبض عليه، لكن قسم مدينة نصر تعنت في إطلاق سراحه. وبعد عدة أيام اتصلوا بأهله وطلبوا منهم أن يأتوا لاستلام جثته بحجة أنه قد توفي نتيجة السقوط من علي السلم. أهالي عم عبد السميع أصيبوا بحالة انهيار حينما شاهدوا الجثة وأثار الكدمات علي أنحاء متفرقة من جسده إلي جانب وجود ثقب في رأسه بحجم ثلاثة أصابع طبقاً لرواية أخيه. ثم في أقل من أسبوع نشر الزميل وائل عبد الفتاح في جريدة الدستور رسالة وصلته من د.خالد فهمي بصفته عضواً في لجنة الحريات الأكاديمية التابعة لجمعية دراسات الشرق الأوسط (ميسا) وهي لجنة تضم مجموعة من أساتذة جامعيين متخصصين في مجال دراسات الشرق الأوسط. تقوم بمتابعة انتهاكات الحرية الأكاديمية سواء تلك التي تقع في بلدان الشرق الأوسط المتعددة أو تلك التي تقع في الجامعات الأمريكية والغربية بشكل عام. في الرسالة انتقدت اللجنة بشدة موقف جامعة قناة السويس من الاعتداءات التي يتعرض لها طلابها تحديداً حالة د.محمد سيد أحمد صالح الزغبي الطالب بالسنة النهائية في كلية الطب، والذي كان يمارس مهامه الدراسية والمهنية بالعيادة الخارجية لقسم النساء والتوليد في المستشفي الجامعي حينما اقتحم العيادة 7 من أفراد الحرس الجامعي وأحاطوا بالطالب وانهالوا عليه بالضرب وسحلوه من العيادة أمام الطلاب والمرضي إلي مقر الحرس الجامعي. وهو مشهد عادي وطبيعي في الجامعات المصرية فالطالب ينتمي للإخوان ومشترك في مجلة حائط بعنوان "القدس"، لكن ما هو خارج عن المألوف هو موقف إدارة الجامعة التي حولت الطالب إلي التحقيق بتهمة الاعتداء وإهانة الحرس الجامعي. وفي الرسالة التي وقعها روجر آلن- رئيس لجنة الحريات الأكاديمية، وأستاذ الأدب العربي والمقارن بجامعة بنسيلفانيا- طالب جامعة قناة السويس بفتح التحقيق والدفاع عن حرية التعبير داخل حرم الجامعة. رغم بشاعة الحادثتين إلا أنهما لم يحوزا الإهتمام الإعلامي والشعبي التي حازته قضية خالد سعيد، والسبب ببساطة أن عنصر الصورة لم يتوافر في كلا الحالتين لهذا لم تستطع مجموعات الفيسبوك التي انشأت تضامناً مع عم عبد السميع أو طالب الطب أن تصنع من الإثنين أيقونة تجذب الجماهير.
الآن تعيد النيابة فتح التحقيقات في قضية خالد سعيد الذي تحولت صورته لأيقونة، لكن التاريخ علمنا أن الأيقونات لا تعيش لفترة طويلة. في النهاية قد يخفت الضوء الإعلامي علي قضية خالد، قد يعاد فتح التحقيقات، قد تصدر أحكام في حق المخبرين الذين قاموا بعمليات التعذيب وينجو الضابط المتهم في أكثر من قضية، بل وحتي قد يحاكم الضابط نفسه. لكن في نفس الوقت يظل التعذيب واقعاً قائماً. فالمشاعر الإيجابية دون نسق فكري أو منهج سياسي قادر علي احتوائه وتوجيهها تظل غير قادرة علي صنع تغير حقيقي. أدخل الإنترنت قيماً ومعايير جديدة علي العمل السياسي تضع الصورة والإستعراض في المقام الأول (وإن كان هذا بالطبع لا يقلل من قيمة ما يطرحه هذا الخطاب). فخطاب الإنترنت السياسي ليس خطاب تحليلي أو إقناعي بل هو في المقام الأول خطاب دعائي. ويمكن أن نلمس ذلك بقوة إذا راجعنا أرشيف الإنترنت طوال الفترة الماضية. علي سبيل المثال يمكننا أن نراجع قضية قريبة كقضية الحد الأدني للأجور. لقد كان الانترنت طوال شهر أبريل ومايو معبأ بقوة اتجاه هذه القضية. عشرات المجموعات علي الفيسبوك، صورة الدعوة للمظاهرة علي مئات المدونات، موقع مخصص للقضية، فيديوهات لشخصيات عامة تدعو للإضراب من أجل الضغط علي الحكومة. لكن مع ذلك لن نعثر ولو علي مقال واحد يوضح القضية من أولها لآخرها، لن تجد مقال مثلاً يوضح لماذا الحد الأدني للأجور 1200 جنيه، وليس ألف جنيه. وهل مثل هذا القرار سيؤثر علي معدل التضخم الإقتصادي؟ هل الحكومة قادرة علي توفير علي هذا المبلغ؟ هل من حكم المحكمة الدستورية أن تدخل في القرارات الإقتصادية؟ لن نجد إجابات علي كل هذه الأسئلة وربما لن نجدها مطروحة من الأساس. بل فقط سوف نجد "صورة" وشعار ترويجي للقضية ودعوة للإضراب. وفي النهاية تمر أيام قليلة وتغيب تلك الصورة لتحل محلها صورة آخري، قد تكون تزييف إنتخابات مجلس الشوري، الإعتداء علي أسطول الحرية، أو صورة خالد سعيد. تستمر الماكينة الضخمة للإعلام من إنترنت، وصحافة، وتلفزيون في إنتاج الصور. تلتهب المشاعر، تندلع مظاهرات صغيرة يحاصره عدد كبير من جنود الأمن المركزي. ثم تبدأ الدورة من جديد بصورة ثانية.. وتستمر.. وتستمر... جج