هالوو.. جاءني الصوت عبر الهاتف ناعماً وطرياً، لدرجة جعلت قلبي يخفق بقوة، فيما كنت أهيئ نفسي للتعامل في حذر، يليق بامرأة لم أتبين حقيقتها بعد، امرأة ربما دفعتها وحدتها القاتلة، وربما أشياء أخري أكثر وحشية ..، للعبث بأرقام هاتفها الجوال، تطلب رقماً عشوائياً ، لإجراء حديث عابر مع شخص ربما لا تعرفه، وفي وقت لا يناسب بالتأكيد موظفاً مثلي، عاد للتو منهكاً من عمل لا يطيقه. صوت تنسيك طراوته شدة إرهاقك، ورغبتك القوية في الاستلقاء علي سريرك الفوضوي، والغرق في نوم عميق، ربما ينقذك لبعض الوقت من وطأة إحساسك بالقهر من انتهاكات وظيفة يومية تستبيح إنسانيتك . الأستاذ ... نطقت باسمي ثلاثياً، مما أربكني، وشتت ذهني. ولما فشلت ذاكرتي في استحضار صوت يشبه صوتها، أجبت بالقول في حيرة : نعم وكأنه يعرف مدي ما أوقعني فيه من حيرة،تبرع بمجاراتي في حديث مقتضب حتي انتزعني من دائرة حذري علي حقيقة، أن الصوت الذي حبست أنفاسي لأخمّنه ما هو إلا صوت "سيف"، مما استثار ضحكي، وأفتر حماسي لمواصلة حديث، حرص بدوره علي إنهائه، خوفاً علي نفاد الرصيد. وقبل أن يغلق هاتفه في وجهي، ويتركني لحيرتي، أكد عليّ ضرورة الحضور في اليوم التالي لاستلام شهادة، قال إنها تخصني .. لم يعفني استخفافي بالأمر من حيرة، حاولت عبثاً الخروج من دوائرها، وإراحة ذهني الذي بذلت مجهوداً لإعادة ترتيبه من الانشغال بأمر تلك الشهادة المفاجئة والغامضة ..، ما أصابني بالأرق، وأشعرني بمزيد من الغضب إزاء "سيف". لم أستطع التعايش مع فكرة أنه لم يختر الوقت المناسب لإبلاغي، فتلك عبارة عادة ما يحّملها الفاشلون مسئولية إخفاقاتهم المتكررة، ودفعتني بدوري لاتهامه بأشياء ربما لا تليق بشخص مثله. كان يمكنه الانتظار بسهولة حتي المساء، لينقل لي خبره التافه. في إحدي جلساتنا المسائية المملة والرتيبة، والتي كثيراً ما نمضي بعضها كمتشردين أمام "كشكه"،الذي يعده بداية خيط لأحلامه الوردية، ولا يتحرّج كلما دفعته هواجسه للارتياب من شرور عيوننا، وأنفسنا الضعيفة أنه باع كل ما يملك في بلدته الكائنة بالبر الغربي من أجل شرائه. في جلستنا المسائية،اعتبرت حديث "سيف" لي في بداية الأمر لا يتعدي كونه مزحة سخيفة، تقتضي فروض الصداقة غير المتينة بيننا تجاهلها، وعدم الاكتراث بها، وربما كان حديثه مجرد تمهيد لحكم جديد من تلك الأحكام الجاهزة التي اعتاد إطلاقها عليّ، أحكام أدرك تماماً أنه استقاها بسذاجة من محيط لا أعفيه من تهمة التشويه المتعمّد لأمثالي..، لكن ما جعل دهشتي في اليوم التالي تنسكب علي الطاولة أمامه، ليس عبثية المشهد، بل لإصراره في غباء بأن الاسم الذي تحمله شهادة " محو الأمية" ما هو إلا اسمي. وأضاف بنبرة من اعتاد التعامل باستخفاف مع أمر أراه مفصليا، ولا يقبل التفاوض، قائلاً: أن عليّ التوقيع أمامه باستلامها..، تاركاً لي حرية اختيار مصيرها !. أفزعني أنه لا يري ثمة ما يميزني..، فقلت بانزعاج شديد: كأنك لا تعرفني.. تحركت شفتاه بابتسامة نهمة إلي إلحاق المزيد من الأذي بي، وهو يؤكد بصوت متأن : بلي . وقبل أن يمنحني الفرصة للرد، أردف قائلاً، بنبرة لا تحمل اعتذاراً، بقدر ما تمثل تبريراً لفعل مشين، لا يوجد لدي أمثالي ما يبرره: انه يعرف أنني أحوز مؤهلا عاليا، وأشغل منصباً يفوق منصبه، لكنه يؤدي عمله!. وفيما كنت أعاني لحظات متوترة، تستدرجني بقوة للإقدام علي قتله، راح يسألني عما إذا كانت لديّ نية في رفضها ..!. ولما فطنت إلي أنه يمكن "لسيف" رغم تواضع منصبه، إلحاق المزيد من الضرر البالغ بمستقبلي الوظيفي، وأنني لا أمتلك حق الرفض، أو حتي الاعتراض، اجتاحني شعور عارم، بأنني أقبع في وسط تيه من الخراب، تراءت لي في صحرائه، قسوة ورعب كل الأعوام التي مضت، والحذر والخوف من قتامة غيوم كل الأعوام التي سوف تجيء..، فتراجعت في جبن عما كنت أرغب بشدة في ارتكابه، مما أفقدني توازني، وأسقطني في نوبة بكاء حارق ومرير ..