أن تتوحد مع مدينة فتكتب عنها كأنك تكتب عن نفسك، ماذا لو كانت المدينة هي حلب؟ حلب الواقعة في شمال غرب سوريا، حلب التي عانت من عقاب جماعي منذ الثمانينيات، لمجرد أنها تضم بشرا لا يرون العالم بنفس عيون السلطة، ولا يتنفسون نفس الروائح، ولا يسيرون علي نفس الدرب، ولا يرددون نفس المقولات. "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" هي أحدث رواية للكاتب السوري خالد خليفة (دار العين، 2013)، وقد أتت بعد أن أخرج "دفاتر القرباط" (2000) ثم قام بمدح الكراهية في عام 2006 والآن يخبرنا أن مطابخ المدينة خالية من السكاكين. وهو ما لا يجب أن نصدقه لأن الرواية تموج بالسكاكين الظاهر منها والمختفي، ولكل فرد في العائلة السكين الخاص به. تبدأ السكين الأولي بالانتداب الفرنسي الذي حول الأم إلي نموذج البورجوازي المنبهر بالخواجة، تيمنا بوالدها، لكن الأحلام تحطمت طبقيا في قرية ميدان أكبس. وما بين الثقافة الفرنسية وثقافة العسكر في الستينيات (إذا جاز أن نطلق عليها ثقافة) تتحجر الأم في حياتها الموازية التي صنعتها بمجرد عودتها إلي حلب بدون الزوج الذي هرب خلف الحلم الأمريكي، لا تتخلي عن بورجوازيتها (التي جعلتها تخجل من ابنتها المعاقة)، مع الزمن تعيش في تهويمات وذكريات وغيبوبات وحالات يقظة قصيرة تشكو فيها من نقص الأوكسجين، وهي الشكوي الدائمة التي تتحول مع الأبناء إلي رائحة العفن. تبقي صورة الأم مهيمنة علي النص منذ البداية وحتي النهاية، حتي عندما تموت يبقي حضورها قويا، فقد كانت أول من أعلن رفضه لترييف المدينة علي يد العسكر، وأول من تنبأ بالشؤم القادم. بقدوم العسكر وانحسار مساحة حقول الخس ترسم كل شخصية الطريق الخاص بها، إما تماهيا مع العسكر أو هروبا منه أو انتقاما أو استسلاما أو يأسا أو انتحارا أو بحثا عن درب آخر. لكن تبقي صورة الأم لتضع القارئ أمام اختيارين كلاهما سيئ: الانتداب أم العسكر؟ الماضي أم الحاضر؟ البراءة أم التجربة؟ الذاكرة المتألقة أم الزهايمر؟ تبدو العلاقة بالسلطة وتأثير السلطة علي الرؤية والمصائر هو نقطة ارتكاز الرواية من دون الإفصاح مطلقا عن ذلك، وهو مكمن البراعة في الكتابة. فيتحول الأخ الأصغر إلي الراوي الشاهد علي المصائر والتحولات، فقد توافق يوم مولده مع يوم الانقلاب، وهو ما يجعله شاهدا علي تجربة العسكرة بأكملها فتكون روايته لما وقع هو وسيلة مقاومة. أما مآسي العسكرة والقمع فقد تجلت بوضوح في مسار شخصية سوسن ورشيد. فسوسن التي تنفر من صورة أمها قررت أن تنتقم نفسيا منها عبر أن تتبني كل ما ترفضه الأم. فتعاونت مع النظام في كتابة تقارير عن زميلاتها وساهمت في العسكرة الأمنية بكل طاقتها، بل بفخر شديد، حتي تلقت الصدمة العاطفية التي ألقت بها إلي الناحية الأخري من التطرف، تلك الناحية التي تدفعها إلي مديح الكراهية، وكأنه كان تقلبا ضروريا لتصل إلي الأربعين فتحدد أنها تريد طفلا. أما رشيد الأخ الأصغر، فقد ظل هائما علي وجهه في عالم الموسيقي التي برع فيها منذ أن كان طفلا، لكن حلب التي كتم العسكر أنفاسها ما كانت تسمح للموسيقي أن تتجاوز أعتاب النوادي الليلية، بانخفاض سقف الطموحات يحاول رشيد أن يحصل علي بعض الأوكسجين، أن يثبت ذاته، أن يبحث عن مخرج من العفن، فلا يجد سوي السفر إلي العراق من أجل الجهاد. وبعد مراجعة قاسية للنفس في سجن أمريكي ببغداد ومراجعة أخري بعد العودة إلي حلب يدرك رشيد أن الموت هو المخرج الوحيد من الحياة الموازية الهامشية، "الموت هو الشيء العادل الوحيد في هذه الحياة". لا يبدو في هذه العائلة أن هناك شخصا متصالحا مع حياته الموازية المثلية الجنسية- للحزب الحاكم سوي الخال نزار، وهو ما يؤهله بعد فترة إلي القيام بدور أمومي في رعاية العائلة، أو بالأحري ترميمها. في استعراض تفاصيل مسارات الشخوص المتعددة، وفي سرد محاولاتهم الخروج من الحياة الموازية إلي قلب الحياة، يدرك القارئ أن هناك عامل وحيد مشترك بين كل الشخصيات وهو تحكم صورة الأب في حياتها، سواء كان الأب الحنون أو الأب القمعي أو الأب الذكوري أو الأب القائد أو الأب الهارب. الأب هو الغائب الحاضر الذي يتحكم في الجانب النفسي لمتن النص. ففي حين كانت الأم تحاول السكن في ماض تقبله في حقول الخس يبدو الأب هو الذي يهدم تلك الصورة، ويتسبب غيابه بشكل فيزيقي في تمكين الأب القائد المسيطر من العقول ليصل الأمر إلي خطف سيكولوجي لا يدل إلا علي تناقض شديد في الوعي في أسوأ الحالات أو علاقة حب-كره في أفضلها. وقد ظهر ذلك بشكل صادم عند إعلان موت الرئيس، فلم تصدق الأم وظلت في حالة إنكار في حين مثل الأمر صدمة لسوسن بالرغم من أن حياتها قد تحولت إلي "جثث متفسخة" بسبب هذا الأب ونظامه. تبقي الرواية وهي مُعولة علي الأم، في محاولة العناية بها، أو في مقاومة صورتها، الأم حضورها كاسر وكاسح، وفي حين يغيب الأب يبقي تأثيره فادحا جالبا للكثير من الخسارات والفقد، وأهمها فقد الذات والإرادة. لا ينجو من هذه الرمزية القاسية للأب إلا جان- الذي يشعر بعار من إجبار زملائه علي رقص الدبكة لتحية الرئيس وحاشيته- الذي يبقي بجانب أمه ليرعاها، وهي الأم التي يبدو حضورها قويا أيضا في السرد، وفي رعايته لها يكتب خطابات لابنه الذي يعرفه بالكاد ويحصل علي وعد من زوجته أن تسلمه الخطابات في لحظة الفهم المناسبة. لكن نجاة جان من رمزية الأب البطريرك لا تجعله أيضا يستعيد ذاته المسحوقة في وجود العسكر، فلا يجد أمامه سوي لقاءات منقوصة مع عابرات غريبات في حياة أخري موازية. إذا كان أمين الحافظ قد هدد أهل حماة في أحداث 1964 أنه لن يدع أي سكين بالمدينة إلا سكاكين المطبخ (كما أكد في برنامج "شاهد علي العصر" علي قناة الجزيرة) فقد أدرك أهل حلب أن لديهم الكثير من السكاكين التي تطعن النفس وتسلب العقل، سكاكين تجعل الموت ملاذا ونجاة، وبالرغم من كل ذلك لم يختر رشيد أن يموت بأي من تلك السكاكين. المشهد الختامي: "جثة رشيد متدلية من السقف كلمبة كهرباء ملوثة بخراء الذباب".