كتبت الأمريكية ليديا ديفيز ( المولودة عام 1947) رواية واحدة و سبع مجموعات قصصيّة. وصلت مجموعتها A Variety of Stories إلي القائمة النهائيّة لجائزة الكتاب الوطني. كما حصلت علي زَمَالة ماك آرثر، ووسام الاستحقاق مِنْ الأكاديميّة الأمريكيَّة للفنون والآداب، علاوة عَلي لقب فارس مِنْ الحكومة الفرنسيَّة عَنْ كتاباتها وترجمتها كُتّاباً معاصرين مثل ترجمة رواية "مدام بوفاري" لفلوبير إلي الإنجليزية، وأعمالا لموريس بلانشو وميشيل ليريس ومرسيل بروست. تشتهر ديفيز بقصصها القصيرة جِدّاً، التي يُعدّ بعضها بين القصص الأقصر بالتاريخ الأدبي. يُمكن النظر للكثير مِنْ إنتاجها القصصي فِي إطار الفلسفة أو الشعر أو القصة القصيرة بالغة الإيجاز، والتي قَدْ لا تتجاوز صفحات أطولها الصفحات الثلاث ؛ لتوصف بأنّها : " عميدة جنس أدبي وليد إبداعها لحدّ كبير ". ونالت أخيرا جائزة المان بوكر الدّوليّة لهذا العام 2013 قصص مشاعر سلبيَّة أحَالَ مُعَلِّم سَليم الطويّة، مدفوعاً بنصٍّ كان يقرؤه، مرّة إلي كافّة المُعلِّمين الآخرين بمدرسته رسالة بشأن المشاعر السلبيَّة. تألّفت الرسالة جُملةً مِنْ نُصحٍ مُقْتَبَس عَنْ ناسِك بُوذِي فيتنامي. تُشبهُ المشاعر، قال النّاسِك، زَوْبَعة : تلبث بُرْهَة ثُمّ تمضي. لَدَي إيناس الخالِجة (شأن زَوْبَعَةٍ مُقبلة )، عَلَي المرء الثبات بوضعيَّة مُستقرِّة. عليه القعود أو الاضطجاع. عليه التّركيز فِي طواياه. التّركيز، لا سيّما، فِي الرّقعة أسفل سُرّته مباشرةً، و يُباشرُ تنفّساً واعياً. فالمرءُ لَوْ يقدر عَلَي تعيين الخالجة بوصفها خالجة، رُبّما يلينُ حينئذٍ عِلاجها. أعْيَت الرِّسالة المُعلِّمين الآخرين. لَمْ يَفْطِنوا سبب توجيه زميلهم رسالة لهم عَنْ المشاعر السلبيَّة. تألّموا مِنْ الرِّسالة و مِنْ زميلهم. خالوا أنّه كان يتّهمهم بحملِ مشاعر سلبيَّة و أنّهم بحاجة للنصح بشأن التعاطي معها. بعضهم، في الحقيقة، أحسّ بالغضب. لَمْ يشأ المُعلِّمون الالتفات لغضبهم بوصفه زَوْبَعَة مُقبلة. لَمْ يُركِّزوا فِي طواياهم. و لا ركّزوا فِي الرّقعة أسفل سُررهم. بَل كتبوا علي الفور، يُعلنون أنّهم إذْ غاب عنهم سبب بَعْثِها، فإنّ رسالته عبأتهم مشاعر سلبيَّة. كاشفوه أنّ التخلّص مِنْ المشاعر السلبيَّة التي سببتها رسالته يقتضي منهم مِراناً كثيراً. سوي أنّهم، تابعوا، لا يعتزمون أداء هذا المِران. و بغضّ النظر عن انزعاجهم مِنْ مشاعرهم السلبيَّة، قالوا، فقد راق لهم بالحقيقة حَملِ مشاعر سلبيَّة، لا سيّما تجاهه و تجاه رسالته. مسلك حُوْشي تَرَي لأي مديً التثريبُ علي الظّروف. لستُ حقّاً امرأةً حُوشيَّة إنْ أدعس المزيد مِنْ مِزَقِ المناديل الورقيَّة بأذنيّ و أعقد طَرْحَة حول رأسي : فحين كنتُ أحيا بِلا مُؤْنِس كنتُ امتلك جُملة ما لزمني مِنْ سكون. مُتَنَوِّرَة لا أدري إنْ أستطيع البقاء صديقتها. أمعنتُ التفكير مرّة بعد مرّة لَنْ تعرف أبداً قدره. منحت الأمر محاولة أخيرة. هاتفتها، بعد عام. سوي أنّ طريقة الحديث لَمْ ترق لي. المُشكلة أنّها ليست مُتَنَوِّرة جِدّاً. أو ينبغي القول، ليست مُتَنَوِّرة كِفاية بالنسبة لي. توشك علي الخمسين و ليست أكثر استنارة، بقدر ما أري، مِنها حِين رأيتها أول مرّة منذُ عشرين عاماً خلت. حين تكلّمنا بالمقام الأول عن الرِّجال. لَمْ اكترث لمدي جهلها آنذاك. رُبّما لأنّني أنا نفسي لَمْ أكن مُتَنَوِّرة جِدّاً. أثقُ أنّني أكثر استنارة الآن، و لا ريب أكثر استنارة مِنها. و إنْ أعي أنّه ليس مِنْ الاستنارة ترديد ذلك. عَلَي أنّي أرغب بترديده، و هكذا أنا علي استعداد لإرجاء تثقيف نفسي زيادة كي لا أكفّ عَنْ ترديد هكذا شيء بشأن صديقة. تَواطؤ مع ذُباب .. أنا مَنْ دوّن تِلك الكلمة فوق الصّفحة، لكنّه مَنْ أضاف الفاصلة العلويّة. سِباق الذّوق الرفيع تباري الزّوج والزّوجة فِي سِباقِ ذوقٍ رفيع فَصَلَت به هيئة مِنْ أقرانٍ لهم، رجالٌ ونساء يتحلّون بالذوق الرفيع. تألّفت مِنْ مُصمم قماش، تاجر كُتب نادرة، طاهي فَطائر، وأمين مكتبة. اُرتئي أنّ الزّوجة تتمتّع بذائقة أطْيَب فِي الأثاث، لا سيَّما الانتيكات. وقُدِّر أنّ الزّوج غثّ الذّوق عموماً بوحدات الإنارة، أدوات المائدة، والآنية الزجاجيّة. فُصِلَ للزوجة ذوقها الفاتر بمعالجات النّوافذ، علي أنّ الزوج و الزّوجة كلاهما اُرتأيا ذوي ذوقٍ رفيع بالمفروشات، بَيَضات الحمّام، المُعدات الضخمة، و الصغيرة. سري شعور أنّ للزوج ذوق رفيع بالسجّاد، لكن محض ذائقة مقبولة بقماش التنجيد. سري شعور أنّ للزوج ذائقة رفيعة للغاية للمأكولات و المشروبات الرّوحيَّة، فِي حين للزوجة ذائقة تتراوح بين الرفيعة و الغثّة للمأكولات. كان للزوج ذائقة أصلح للثياب عن الزّوجة رغم ذائقتها المتباينة للعطور وماء الكُولُونيا. وفِي حين قُضِيّ ليس للزوج و لا الزّوجة أكثر مِنْ ذائقة متواضعة بتصميم الحدائق، اُرتئي أنّهما يحظيان بذوقٍ رفيع فِي عدد وتشكيلة مِنْ النباتات دائمة الخُضرة. ساد شعور أنّ للزوج ذائقة متميّزة للزهور لكنها غثّة بالبصيلات. و ساد شعور أنّ الزّوجة تحظي بذائقة أجود بالبصيلات وذوق رفيع إجمالاً بأشجار الظِلّ باستثناء الهوستا. سري شعور أنّ ذائقة الزّوج سائغة بأثاث البساتين لكن لا تجاوز القبول بأحواض الزّينة. قُضي أنّ ذائقة الزّوجة متباينة الهزال فِي منحوتات الحدائق. عقب نقاش قصير، صَدَحَ المُحلّفون بحصول الزّوج علي مجموع النقاط الأعلي. بعد رحيلك أردتَ أروي لك كل ما جري لي بعدما بارح كل مِنّا الآخر. طيب، كنتُ مكروبة، وكان شعوراً بهيَّاً جِدّاً. حين أبصرتُ ظهرك يغيب داخِل مَقْصُورة القطار، تسلّقت الجسر كي أري القطار يمرّ تحتي. وكُلّ ما رأيته، أنّك كنت قابعاً فِي قلبه ! راقبته قَدر ما أستطيع، وأصغيتُ له. فِي الاتجاه الآخر، صوبَ روان، كانت السماءُ حمراء مخططة بنطاقات واسعة مِنْ الأرجواني. جائز غَمَرَت السماء عتمة سابغة إبَّان وصولي روان ووصولك باريس. أشعلت سيجارة أخري. لوهلة طفقتُ أراوح مكاني ذِهاباً وإياباً. بعدها، إذ لَمْ يعتريني لا خدر ولا إنهاك، دخلتُ مقهيً علي الجانب الآخر مِنْ الطريق وشربتُ كأس عصير كريز. بَلَغَ قطاري الرّصيف، يقصدُ عكس وجهتك. داخل المقصورة، قابلتُ رجلاً أعرفه مِنْ أيام المدرسة. تكلّمنا وقتاً طويلاً، تقريباً طيلة الطريق إلي روان. حين عُدت، ألفيتُ لويس هُناك فِي لقائي. كما رتبنا. لكن أمّي لَمْ تبعث العربة كي تحملنا للبيت. لبثنا وقتاً، بعدها، علي ضوء القمر، مشينا فوق الجسر وخِلال المرفأ. فِي تلك الرقعة مِنْ البلدة ثمّة موضعين نستطيع فيهما استئجار حنطور. فِي البُقْعَة الأخري، يعيش النّاس داخل كنيسة قديمة. كانت مُعتمة. طرقنا و أيقظنا المرأة، التي جاءت إلي الباب بلباس النّوم. تخيَّل المشهد، فِي منتصف الليل، وأحشاء تلك الكنيسة القديمة خلفها تفغر فكّيها متثائبةً، وشمعةٌ تحترق، يتدلّي الشّال الدانتيل الّذي تلبسه تحت وركيها. تحتّم وضع السّرج فوق الحصان، بالطبع. كان طوق المؤخِّرة مكسوراً فانتظرنا لمّا أصلحوه بحبل. أثناء الرّجوع، صارحت لويس بشأن صديق الدّراسة القديم، صديق دراسته القديم كذلك. رويتُ له كيف أمضينا أنا وأنت عُمرنا معاً. خارج النافذة، أشرق القمر فوق النّهر. تذكّرتُ رحلةَ رجوعٍ أخري بوقتٍ متأخر علي ضوء القمر. وصفتها للويس: كان ثمّة ثلجٍ غائر فوق الأرض. داخِل زلّاجة، ألبسُ قُبّعتي الصوف الحمراء مُحاطةً بعباءتي الفراء. كنتُ أضعت حذائي الطويل يومئذٍ، فِي سبيلي لمشاهدة متحف طغمة همج مِن أفريقيا. كافّة النوافذ كانت مفتوحة، وكنتُ أدخّن غَلْيوني. كان النّهر معتماً. الأشجار معتمة. وقَدْ أشرق القمر فوق حقولٍ مِنْ جليد : تراءت مصقولة مِثل نسيجٍ مِنْ حرير. تبدّت البيوت التي غطّاه الثلج مِثل دببة صغيرة بيضاء تكوّرت نائمة. تخيّلتُ أنّني في السهول الرّوسيَّة. وحسبت أنّ بوسعي سماع أيل الرنَة يخورُ فِي الغيم. حسبتُ أنّ بوسعي رؤية طغمة ذئاب تتواثب عند مؤخِّر الزلاجة. كانت عيون الذئاب تبرق كأنّها فحم علي جانبي الطريق. حين وصلنا البيت بنهاية المطاف، كانت الواحدة صباحاً. أردت ترتيب طاولة عملي قبل أنْ أدلف للفراش. خارج شُبّاك مكتبي، لا يني القمر يشرق علي صفحة النّهر، ممر السحب علي الضفّة وبالقرب مِن البيت، علي شجرة التُّوليب جانب شبّاكي. حين فرغت، انصرف لويس إلي حجرته و أنا انصرفت إلي حجرتي. رسالة إلي مدير فندق عزيزي مدير الفندق. أكتبُ كي ألفت انتباهك أنّ كلمة «سكْرُودْ - Scrod« تمّ هجاؤها بطريقة خاطئة في لائحة المأكولات بمطعمكم، وهكذا تُطِلُّ «شرُودْ - Schrod» مع »sch« هذه الكلمة دوّختني جِدّاً حين قرأها أول مرّة، إذْ أتعشي وحدي أثناء الليلة الأولي مِنْ إقامتي المقرر لها ليلتين في فندقكم. فِي مطعمكم بالطابق الأرضي بعيداً عن رواقكم شديد البهاء بألواحه الخشبيَّة المنقوشة، وسقفه الباذخ، وطابور مصاعده الذّهبيَّة. خِلتُ هذا الهجاء لابد الصحيح و أنّني لا ريب خاطئة، إذْ أنا هُنا في نيوانجلند، في بوسطن، فِي الواقع، فِي موطن سمك القُدّ و السكُرُودْ. لَكِن حين نزلتُ مِنْ غرفتي إلي الرّواق الليلة التالية، علي وشك العشاء في مطعمكم للمرّة الثانية، هذه المرّة برفقة شقيقي الأكبر، وأثناء انتظاره بالرواق، الأمرُ الّذي يروق لي عموماً لو أنّ الجِلسة هنيئة وأنا أرجو عشاءاً طيباً، عَلَي أنّني كنتُ هذه المرّة مُبكِّرة لحدّ بعيد و أخي جد مُتأخّر، وهكذا طال الانتظار بعض الشيء و بدأت أتساءل إنّ كان جري شيء لأخي. كنتُ أقرأ مطبوعةً ما وفّرها لي موظف عذب وراء طاولة الاستقبال، كانت خِصاله، شأن خِصال العاملين الآخرين، باستثناء، رُبّما، مدير المطعم، فِطْريّة جداً و غير مُتكلَّفة أنْ عززت إقامتي في فندقكم أشَدّ ما يكون، بعد سؤالي لَو لديه سرد لتاريخ الفندق، إذْ نزلت شخصيّات شهيرة ذات بال هُنا أو عملت هُنا أو أكلت أو شربت هُنا، مِنهم جَدّتي الكُبري، علي أنّها لَم تكن مشهورة، و فِي هذه المطبوعة التي أعدها الفندق علي ما يبدو قرأت أنّ مطعمكم زعم، في الواقع، اختلاق كلمة »سكْرُودْ« ليصف صيد اليوم، علي النقيض مِن « القدّ » أحسب، الّذي تشتهر به هذه المدينة أيضاً. تذكّرت كذلك، رُبّما علي نحوٍ خاطئ، رؤية هذه الكلمة بمكانٍ آخر »shrod«ما لم تكن كلمة أخري بمعني مُغاير. طرأ لي، أظنُّ متوهّمة، أنّ « scrod» تعني »صِغار القدّ« أو جائز كانت »shrod« هي التي تعني «صِغار القدّ» و «scrod» هِي «صيد اليوم» إنْ يكن لكلمة « shrod» وجود بالأساس. لا أعرف الكثير عن سمك القدّ، عدا المزحة القديمة عن السيدتين الارستقراطيتين خِلال رجوعهما للديار علي متن قِطار مِن بوسطنْ وخِلال حديثهما ضلّت إحداهنّ وحسبت « scrod» تصريفاً لفعل في الماضي. لوهلة الليلة الفائتة، أقول، خِلتُ هذا الهِجاء رُبّما صحيحاً، بعدئذٍ اعتراني يقينٌ ما بخطأه سوي أنّي ترددت أينبغي أن تكون shrod أم scrod لَو أنّ «shrod» لها وجود. عَلَي أنّي لَمْ أرها بأي موضعٍ آخر مكتوبة « shrod» مع « sch». فِي النهاية، بالليلة التالية، عقدت آصرةً رُبّما خاطئة، بين هذا التّصْحيف واللكْنة التي خاطبني بها مدير مطعمكم أنا وشقيقي. لَقَدْ تواجد هذا المدير بقاعة الطعام بالليلتين اللتان تعشّيتُ بِهما هُناك و تراءي، رغم دماثته، فاتراً بعض الشيء في خِصاله، لا بالنسبة لي بخاصة بل بالنسبة للكافّة. وخِلال الأمسيَّة الثانية لَمْ يبد حريصاً علي تمديد الحديث الّذي بدأته معه و الّذي اقترحت خِلاله فكرة أنْ يضيف المطعم البقوليّات المطبوخة إلي قائمة المأكولات ؛ إذْ هِي شائعة كذلك في بوسطنْ و المطعم يتباهي كونه مُسْتَحْدِث فطيرة كريمة بوسطنْ، التحليّة الرسميَّة بولاية ماساتشوستسْ، حسبما علمت مِنْ مطبوعة الفندق الدّعائيَّة، فضلاً عَنْ لَفيفة باركرْ هاوسْ. لَقَد تجلّي تلهّفه تقريباً لوضع حدّ للحديث والابتعاد عنّي، وإنّ كنت أجهل لأي وجهة، لمّا لَمْ تبد له صنعة اللهم المشي بصلف بعض الشيء و أعني بها وضعيّة مفرطة الانتصاب مِنْ أحد جانبي القاعة المُتْرَفَة المديدة، المُغبشة قليلاً، إلي الآخر، أي، بين المَدْخَل الواسع حيثُ تفد حَفْنَة مِنْ النزلاء بين الحين و الآخر مِنْ البهو لتناول العشاء، و بين ما ينبغي المطعم، المخفي جيداً وراء مشربٍ ما و نخلتين ضخمتين فِي أصيصين. علي أي حال، فقد لمحت أثناء حديثه معنا، إذْ يميل قليلاً علينا لكن مع كل وقفة يلتفت ليبتعد، أنّ لكنته رُبّما ألمانيَّة، الأمر الّذي دفعني لاحقاً، أثناء التفكير بشأن هجاء «scrod» الخاطئ، أنْ أُخمِّن أنّ البادئة « sch» شديدة اللصوق بالألمانيَّة كانت من صنيعه. رُبّما يكون هذا جائراً بعض الشيء، وجائز أنّه صنيع شخص آخر، شخص أكثر شباباً، أخطأ هِجاء «scrod» دون أنْ يقع مديركم علي هذا الخطأ بسبب نزعته لبدء كلمة بالبادئة «sch». هُنا ينبغي أنْ أضيف دِفاعاً عنه، بَيْنَ هِلالين، أنّه رغم فتوره تجاهي فقد تراءي منفتحاً لحدٍّ ما علي فكرتي إضافة البقوليّات المطبوخة إلي لائحة الطعام. وأوضح أنّ المطعم قدّم مرّة قليل مِنْ قدور البقوليات المطبوخة مع لفائف الخبز و الزّبد بأول الوجبة وأنّهم كفّوا عن عمل هذا لأنّ مطاعماً أخري كثيرة فِي بوسطنْ بارزة فِي هذا الصنف. لَمْ أحرص علي دفعه للاعتقاد أنّ فكرة القدور الصغيرة بأول الوجبة راقت لي بل علي العكس. خِلتها فِكرة مريعة. لَنْ تُمثِّل البقوليات المطبوخة بأول الوجبة مُقبّلاً طيباً، إذ هي حُلوة عَسِرَة الهضم. لا، لا، قلت، ينبغي أنْ تُدرج بمكانٍ آخر علي اللائحة. يتصادف أنْ أُحبّ البقوليات المطبوخة، وقَدْ اعترتني خيبة أمل ألا أجدها هُنا فِي مطعم بوسطنْ هذا، بجانب سمك القدّ، ولفائف خُبز باركرْ هاوسْ، وفطيرة كريمة بوسطنْ، اللواتي طلبتهنّ جميعاً بالليلة الثانية. كان رفيقي علي العشاء، أي شقيقي، صفوحاً بشأن هذا الحديث المُطوّل و رُبّما دون طائل، إمّا لأنّ سعادة غامرة اعترته لدي الجلوس إلي عشاء لذيذ مَعَ كأس نبيذ أحمر عقب يوم شاق مرّ به، بالرواح والمجيء بين أرجاء المدينة، هو الغريب عَنها، فِي مَسعي لإتمام مُتفرِّقات عملٍ شتي ذات صلة بحيازة أمّي، لَمْ تُكلل كلها بالنجاح، أو لأنّ مسلكي ذكّره، فِي الواقع، بأمِّنا، شديدة الميل لبدء حديث مع غريب، أو بالأحري، مِنْ الأصدق التصريح، لا يمكنها السماح لغريب الاقتراب منها دون شنّ حديث معه، فتعرف شيئاً عن حياته وتُجيزُ له الاطلاع علي بعض قناعاتها الرّاسخة، ومَنْ لقي نحبه الخريف الفائت، مُخلفاً لنا حسرة شديدة. وعَلَي أنّ، بما يكفي طبعاً، بعضاً مِنْ خصالها كانت مصدر ضيقٍ لنا أثناء حياتها، فإنّه يروق لنا تذكّرها الآن، لأنّنا نفتقدها، وكلانا يعتنقُ بعضاً مِنْ تلك الخِصال اللصيقة بها، ما لم نكن قد اعتنقناها منذُ عهدٍ بعيد بالفعل. أخالُ أنّ شقيقي أضاف حتّي اقتراح مِنْ بنات أفكاره للمدير، بعد الجلوس منصتاً فِي هدوء لمقترحي، رغم عجزي عن تذكّر ما قال. وفي حوار معها عن اللغة والتاريخ : الكتابة بالنسبة لي هي الوضوح والبساطة والتوازن تطرح الرّوائيّة الأمريكيّة فرانشينا بروس ما يشغلها مِنْ تساؤلات بشأن أصالة كتابات ليديا ديفيز. أفكارها، لغتها. فِي حوار نشرته مجلّة BOMB الفنيّة الشهيرة. هُنا مقتطفات مِنْ الحديث. فرانشينا بروس : هل تذكرين تعلّم القراءة ؟ ليديا ديفيز : بلي، وذكرياتي عن كُتب ديك وجين مُفرحة جِدّاً... كانت بالغة الوضوح والسهولة والتأنّق. في الواقع قضيت عامي الدّراسي الثّاني في النمسا. لَمْ أمكث سوي عام واحد بتعلّم الانجليزيّة بعدها تعلّمت القراءة بالألمانيّة. لا أزال أحتفظ بكتب الدراسة الألمانيّة التي يتضاءل فيها حجم الحروف كلما تقدّمت بتصفح الكتاب. ف.ب.: هل تفكّرين بالإيقاع بكتابات ديك وجين ؟ ل.د.: لطالما أحببت الوضوح والبساطة والتّوَازُن. كافّة الأوزان الشعريّة مُغريَّة. وقَدْ انسجمت مع موسيقي اللغة فضلاً عَنْ موسيقي الموسيقي. رُبّما جعلني تعلّم لغة أخري فِي السّابعة مِنْ عمري مُفرطة الحساسيَّة للغة. بالتدريج بدأت الكلمات تكتسب معناها. لكن في البدء سمعت اللغة بوصفها إيقاعاً. ف.ب.: ثمّة كُتب كثيرة تدفعني للتفكير : لا آبه لمضمونها بقدر الجمال في كتابتها. ل.د.: في الواقع بيكيت قال بموضعٍ ما أنّه لا يكترث بما يقوله النصّ إذا كان مبنيّاً بصورة جميلة، أو ما شابه كل المعني و الجمال يكمن في البناء. ف.ب.: قرأتِ بيكيت في الثالثة عشرة ؟ ل.د.: بلي، لكن لَمْ أقرأ كل أعماله. ف.ب.: هل يشغلك بيكيت كثيراً الآن ؟ ل.د.: كان بالغ الأهميَّة لي خلال سنوات عشريناتي الأولي. لَقَدْ درسته. كنتُ أفكك عِمارة الجملة، كي أري بالضبط كيف بناها. ولِمَ هِي جميلة. أظنّ أردت الكتابة مِثل بيكيت. ف.ب.: لَو كان عليك التفكير بكاتب مُعاصر... أقرب للموسيقي ؟ غالباً بيكيت وجويس يتراءيان كمن يكتب طلباً لموسيقي اللغة أكثر مِنه مِنْ أجل مضمون. ل.د. : ماذا عن نابوكوف ؟ هل تدرجينه معهما ؟ ف.ب.: حسناً نابوكوف. بلي، نوعاً ما يُشبهُ (الموسيقي المجري) بارتوك... ف.ب.: متي اكتشفت أنّ الذّات التي تراقب ذات الكاتب مِنْ الأفضل إقحامها داخل القِصّة؟ كثير مِن القصص تحتوي هذا العنصر. وهو واحد مِنْ الأمور التي تضفي عليها بُعداً وتلاحماً وطبقات. ل.د.: فِي اللامسمّي، يقيناً يُدرج بيكيت الذّات الراصدة لذات الكاتب. ثمّة قِصّة داخل قِصّة. العجوز الّذي لا يكفّ عن خسارة قلمه الرصاص يحاول رواية قِصّة عن عائلة غريبة نسيت اسمها سابوزكيت أو ما شابه. لَمْ استعن بهذه الحيلة منذ وقتٍ خلا، لأنّ كُلّ ما أقرأ حذّرني مِنْ عمل هذا. ف.ب.:...هُناك فلوبير مع كافّة تِلك التصريحات بشأن ضرورة احتجاب المؤلِّف خِلال العمل. ل.د.: هذا سبب إحساسي كأنّني أحتال فِي قِصّتي بؤرة الحكاية، أضفتُ طبقة أخري وهذا البُعد أو المنظور الآخر أضفي بصورة آلية ثراء و تشويقاً أكبر علي القصص. لكن هل هذا احتيال أم لا ؟ ف.ب.: لِمَ تظنّين هذا ؟ ل.د.: إليكِ السبب : إمّا كان عليّ امتلاك تلك النيّة منذُ البداية، وآنئذٍ لتكون جزءاً وحِزمة مِنْ مُجمل التصوّر، أو كان ينبغي أنْ تكون القِصّة قويّة بما يكفي لتقف علي قدميها. كان مبعث شعوري ببعض عدم الارتياح هو، ألا يسعني عمل ذلك بكلّ قِصّة لا تُفلِح ؟ غالباً أبدو كمن تعمل بروحين : أيّما دافع لديّ لكتابة قِصّة ثمّة ما يكفي مِنْ هذا الدّافع لتركها لصالح قِصّة أخري. ف.ب.: كنتُ سأسألك عن ذلك، إنْ كانت القصص تؤدّي لقصص أخري أو أنّها كلّها قصص مُتمايزة ؟ ل.د.: غالباً لا تؤدّي أي مِنها للأخري، باستثناء خِلال الكتابة، إذْ تعتريني انطلاقة قويّة تجعلني أكثر ميلاً للتفكير بقصص أخري. وهكذا بهذا المعني تُفْرِخُ قِصّة واحدة بدايات كثيرة أخري. ف.ب.: أحد الأشياء التي أحبّها بشأن القصص أنّ ثمّة ما هو بعيد عن البؤرة يختزل كل شيء للأصول الأولي. فِي عدد قليل جِدّاً مِنْ القصص يعرف القارئ أين تجري الحكاية أي مدينة وفِي عدد قليل جِدّاً مِنْ القصص تحمل الشخصيّات أسماء. أو تحمل أسماء نوعيّة غريبة مِثل الزّوجة رقم واحد. حين كنتُ طفلة لَمْ أكن ألبس نظّارتي بسبب اختيالي الكبير، لكن حين قرأت القصص أول مرّة بعثت هذا المعني الخاص بعدم وضوح الرؤية، لكن بطريقةٍ ما الشّعور بانعدام الرؤية أكثر دِقّة مِنْ الرؤية. ل.د.: حين لا تلبسين نظّارتك، جُملة ما يمكنك رؤيته ما هو قريب منك. تعجزين عن رؤية السّياق. لا يُمكنك رؤية باقي الحُجرة أو الجانب الآخر مِنْ الشّارع. أنا الأخري لَمْ ألبس نظّارتي فترةً ما. لَقَدْ فكّرت بشأن هذا لأنّني ألاحظ هذا طيلة الوقت إذْ فِي قراءة أعمال الطُّلاب أو مناقشة أعمال الآخرين، لا أواجه صعوبةً تُذكر بالتركيز علي التفاصيل، سوي أنّي أضطر لبذل جهد كبير فِي الابتعاد عن نصّ ما وإجمال أفكاره الرئيسيَّة. كنتُ أُصرُّ فِي طفولتي علي معرفة المزيد عن العالم الخارجي. وخلال الدّراسة الجامعيَّة كان لي وعي شديد الإبهام بشأن الحقائق والمسافات. فِي حين كان أدائي لا بأس به بأحد الواجبات المدرسيَّة تعلّق باختيار مقال مِنْ صحيفة والإشارة للمكان الّذي كشف فيه الصحافي عن انحياز. مرّة أخري، كان هذا تحليلاً نصيَّاً مُحكماً. ف.ب.: كان أمراً يتعلّق باللغة. ل.د.: لقد كرهت التّاريخ لأنّ الأحداث كان يمكنها الجريان بطرق شديدة الاختلاف. فِي حين أحببت الرّياضيات لأنه ليس إلا طريقة واحدة يُمكن حل المسألة بها. ف.ب.: واللغات ؟ ل.د.: كنت بارعة جِدّاً باللغات. أحببت اللاتينيَّة. في الواقع اللغة اللاتينيَّة تبدو منطقيّة أكثر مِنْ الفرنسيَّة، ربما بسبب العنصر الرياضياتي مرّة أخري. ف.ب.: هل تساعد التّرجمة بطرق بديلة عدا اقتطاع الكثير مِن وقتك ؟ ل.د.: تغمرني لذّة كبيرة بسببها. أنفقت سنواتٍ طوالا بها وهي تصير ممتعة أكثر، علي أنّي أقلق إذ كلّما تصير أكثر إمتاعاً رُبّما أصبح مُترجمةً أسوأ. أحبّ التّرجمة الأقرب للحرفيّة عن إعادة إنتاج الجملة. أنْ أستطيع استعمال لفظ شبيه لنظيره الفرنسي لا أتردد. التّرجمة هُنا تشبهُ يداً داخل قُفّاز. لكن بعدئذٍ بدأ القلق يعتريني : هل تماديت ؟ هل أختلق لغة رنّانة عسيرة تقع بين الإنجليزيَّة والفرنسيَّة ؟ ف.ب.: لكنها تجعلك أكثر حساسيَّة بالكلمات وحتميَّة المراوحة مِنْ أجل العثور علي الكلمة المناسبة. ل.د.: هذا أحد أسباب حُبّي التّرجمة ليس عليّ قدح رأسي طلباً للكلمة التالية. لستُ مضطرة للاستعانة بمُخيّلتي. هكذا التّرجمة أمر مُريح، و بالوقت ذاته هي أحد أشكال الكتابة. ف.ب.: واحد مِمَا يُميّز كتاباتك وإنْ يخالجني شكّ حيال حقيقة ما أقصد أنّنا لو انتزعنا اسم ليديا مِنْ قِصّة، لا يني المرء يُدرك أنّها واحدة مِنْ قصص ليديا ديفيز. ماذا أقصد ؟ رُبّما تعرفين. ل.د.: حسناً، كتبتُ البارحة فحسب خِطاباً لرجل قرأ روايتي وكتب عنها تماماً كما قَدْ ترغبين أنْ يقرأ أحد كتاباً لك. ف.د.: أين كان هذا ؟ ل.د.: فِي لندن ريفيو أوفْ بوكسْ. رأي مايكل هوفمانّ أموراً لَمْ أرها. أمسك جُملة ما أريد أن يُصادف أي أحد. نعت الكتاب بالكوميدي ما أفرحني جِدّاً. لكن ما ألفيتهُ مثيراً أنّه بعد شهرين مِنْ المتعة بهذه المراجعة بدأت أشعر بعدم الارتياح إذْ رُبّما قرأ الكتاب كما أودّ أن يُقرأ، دون أن يعني ذلك أنّ الكتاب هكذا كان، أو يكون. اضطررت حقّاً لمجابهة الفكرة الفلسفيَّة أنْ الكتاب لا يكتمل إلا بالقارئ. بغتة لَمْ يعد للكتاب وجود مُستقل. "تويتر"..بناء علي رغبة الناشر كشفت ليديا ديفيز، عن حِرص ناشرها أنْ تُجرِّب كتابة القصص علي تويتر. جاء هذا خَلال ظهورها بمهرجان هاي للآداب و الفنون هذا العام. و صرّحت : « طلب مِنّي تجربة الكتابة علي تويتر و أخال أنّني قَدْ أحاول بعض الوقت، عَلَي أنّ قلقاً يراودني بشأن الكشف عن مساحة جديدة يجاريها المرء » و أضافت أنّها حتّي الآن ليس لديها حساب علي تويتر لكنّها منجذبة للفكرة، رغم حقيقة أنّها لا تني تكتب مستخدمةً قلماً وورقة. »أري اهتماماً بالكتابة علي تويتر... فِي حين لا تني دور النشر تُحبّ الرّواية ولا يني القراء يُحبّون الانغماس في رواية، إلا أنّ الشكل بالغ السرعة له جاذبيّة بسبب وتيرة الحياة « تميل ديفيز بالفعل لاستعمال لغة تلائم تويتر بدرجة أكبر، و تؤثر المفردات الأنجلو-ساكسون ذات المقطع الواحد. « أحبّ الجذور الأنجلوساكسون، مع أنّنا محظوظون جِدّاً بتوافر الكلمات المشتقة عن اللغة اللاتينيَّة بالإضافة للغة الإنجليزيَّة. لَو كتبت عن أكاديمي أو شخص أكثر تعقيداً سأستعين بالمفردات المشتقّة عن اللاتينيَّة، سوي أنّي أظنّ الأنجلوساكسون هِي لغة الإحساس » و سلّمت ديفيز المُترجمة الأدبيّة ذات الخبرة الواسعة بلغات عِدّة، أنّ أسلوبها المُرتجل بالكتابة، رُبّما يناسب التدوينات الموجزة. »لا أتقشّف كثيراً. أكتب بداية القِصّة و أدع لها التكشُّف بهيئة شديدة القُرب لِما ستكون عليه في النهاية. لا تعمّد بالكتابة« بالوقت ذاته أرادت الكاتبة لفت الانتباه لقيمة الشكل الأطول.» أعتقد أنّ الرّوايات غُضّ الطرف عنها. لقد كتبت رواية منذُ سنين خلت أخالها لا بأس بها، اسمها نهاية القِصّة، دون تباهٍ » و أضافت، « كانت تجربة صعبة. اضطررت لعمل مُخططات مُتجشّمةً عناء درب لم اعتده«