خرافة ، عالم سحري يخترعه ويدخل فيه ، يعيش في اللازمان واللامكان ، ينكفيء علي الطاولة المائلة أمامه ليرسم ، يمتزج بطرف ريشته وينغمس في قنينة الألوان . يمارس طقوسه المجنونة يتسطح علي الورقة البيضاء ، يتمدد، ينام ، كأنه نام بالفعل، لا كأنه يقظ ، كأنه بين هذا وذاك ، حالة وسطية ، بينّ . بينْ ، كالمنطقة الحدية بين الأبيض والأسود . هي حالة خاصة ، خاصة جدًا، يدخل فيها عندما يخرج من ذاته، ويتداخل في الألوان ، الأحمر، الأزرق، الأخضر، من الرمادي، إلي الأسود، يتلون ثم يتجرد يتسطح علي الصفحة البيضاء ، يتوحد معها تارة وينفصل أخري، ثم لايلبث أن يتناثر مع خيوط الضوء الساقطة من المصباح يتكسر معها علي سطح الصفحة ، ويعود مرة ثانية ليتسامي ، يتطاير مع ذرات دخان السجائر ، هنا ، وهناك ، يملأ المكان ، كأنه الفراغ ، يبحث عن فكرة جديدة ، في رأس الصفحة البيضاء ، ليدخل في انقباضة الفكرة ، فتعتصره ويعتصرها ، يحاول أن يقبض عليها، يقتلعها من جمجمته فتتلاشي بين اصابعه ، لا يبقي منه إلا نبض ، كدقات عقارب الساعة المصلوبة علي الجدار ، لها دبيب يسري في كل كيانه ، حتي نهايات أعصابه ، يتدفق إلي قلبه الوهن .ومن جبهته يتساقط العرق ، يقول لنفسه وتقول له بصوت يسمع صداه ، عندما يدوي في تجاويف الفراغ ويغدو الواحد أثنين : شئ من العبقرية أن تكون فناناً ، لأنك سوف تكون مختلفاً . وعندما تختلف ، فإنك تتميز ، تتحول ، تتفرد والمصيبة الكبري أنك تعتقد ذلك ، وتعمل له . تذكر الدهشة التي ترتسم علي وجه زوجته كلما حدثها عن عبقرية الفن ، وفن العبقرية ، وكيف يصارع الفكرة وتصارعه، ضحك . وضحك . وعندما هدأ من نوبته، تجاوزها إلي نجوي الإبداع ، للفكرة التي يركض خلفها . كأن الوقت توقف عنده . سكون له صوت رهيب وعقارب الساعة المصلوبة علي الجدار تضرب متوافقة مع ضربات قلبه، إيقاعاً يبدأ هادئاً ثم يتعالي حتي يصبح عنيفاً ، يزلزل كيانه ، لكنه ينظم ، عالمه الخاص جداً، عاد مرة أخري ليحدث نفسه وتحدثه .. »الوقت أن تموت حياً، تتلاشي في الفراغ فتختلط به ، وتدور مع ذرات الهواء ، تدخل فيه وتنتثر ، عندما تكتشف الأسرار ، تفك أنغلاقها، وتري ما لا يراه غيرك، وتدرك ما لا يدركه سواك ، المصيبة كيف تتحدد بأجزائك مرة ثانية لتعود إلي العالم الآخر ، تأكل وتنام«. انفق الكثير من الوقت في التفكير دون أن تكتمل الفكرة ، كأنها استعصت عليه ، كأن الورقة البيضاء تداخلت في الأبيض بدرجاته جميعاً ، وبدأت الألوان حالة انفصال .. هاديء ، أبيض - أبيض ، ثم أبيض متوسط ، فأبيض خافت ، رأي الألوان وهي تتحول ، فلم يعد الأزرق أزرق ولا الأحمر أحمر ولا الأصفر أصفر، والأخضر لم يعد أخضر .، ألتقط أنفاسه وهو يستغرق اللحظة الخصبة ، تشبث بها وقال لنفسه وقالت له : ا هذه البداية التي تسبق عنفوان الفكرة .تسطع الألوان ، ثم ، ثم سرعان ما تتنافر وتتباين ، بعدها تنفصل ثم تتباعد ، وتتحد ثانية صارخة ... هذه البداية نعم إنها تأتي هكذا ، وجع لذيذ ، هدوء موت الألوان، ما أقسي صراخ الألوان ، عندما تصل إلي الشرايين ، والأطراف تتدفق مع الدم إلي المخ والقلب ، وتنتشر، في الأرجاء كلها .. توقف فجأة ، شعر أن جمجمته تنفلق إلي نصفين ملتحمين عند جبهته أسفل منبت الشعر، عندما تسمرت عيناه في بؤرة قلب الصفحة البيضاء ، مستغرقاً في دهشة الجنون وتوهج الأرق . قال لنفسه وقالت له : ا نعم ها هي الفكرة اللعينة ، هلمي ، الصفحة البيضاء تفيض ، تتكشف ...نعم الفكرة المستعصية ، تطل برأسها من بؤرة الدوامة ، نعم الفكرة دوامة ...ب وشرع يرسم بكل نبضه . دوامة ، دوامة صغيرة ، ثم أصغر منها ، ثم أكبر منها ، وأخري مثلها وهكذا ، دوائر رمادية متداخلة الألوان ، يغلف بعضها الآخر ، كأنها دخان يلتف في دوائر أشبه بدوائر التكوين ، نعم هذه الفكرة ، قال لنفسه وقالت له : الصفحة البيضاء دائماً تتوالد فيها الأفكار ، إغداق ، تبوح بسرها المكنون ترسم نفسها أو تكاد ، تتجسد صريحة فارعة كالنخلة المثمرة ، باسقة في السماء ، حتي لو كانت دخانا، المهم أن تمعن النظر في الصفحة البيضاء ، تمتزج بنسيجها، تتحسس تضاريسها، وتشم رائحتها ، وتلثم يدها ، كم قلت لك أن الصفحة البيضاء ليست بيضاء، كما أن الورقة الملساء ليست ملساء .. . أخذ يتتبع الفكرة وهي تبزغ ، تتبعها في وهن وهو يغمس الريشة في الألوان ، تولد رويدًا رويدًا ، تظهر ملامحها ، ترسم أشكالاً لا حصر لها ، وكل خط يستدعي خطاً جديداً ، كأنه ينسحب من نهايات اطرافه ، عاد يحدث نفسه وتحدثه : الألوان لا معني لها ، إن عجزت عن البوح، نعم . الفكرة قلب السر وعقله ، تُسقط عليها ذاتك القلقة في بحثك عن الطمأنينة.، واللا طمأنينة، بعيدًا عن الزمان والمكان ، تلتقط الفكرة ، من تيه الصفحة البيضاء . وعندما استدارت الدوائر وكادت ان تكتمل مكونة دوامة حلزونية ، متداخلة الألوان ، وغدا الأزرق أزرق ، والأحمر أحمر ، التحم مرة ثانية بأجزائه محاولا الانفصال عن قبضة فوضي المكان والزمان .