ميرال الطحاوى لاشك أن إحدي الدلالات الرئيسة التي تكشف عنها رواية »بروكلين هايتس« لميرال الطحاوي، تتمثل في النظر إلي الغربة ليس باعتبارها فضاء تتواصل فيه الذات أو تعترف وتبوح للآخر بكل هواجسها، بل بوصفها منبها للذاكرة علي الغوص في محتوياتها وتفاصيلها. إنها الذات التي تجتر ماضيها وطفولتها وتجعل منهما رمزا لهويتها المفقودة وخلاصا لحالتي الحيرة والخوف اللتين استبدتا بتجربتها في الحياة. بل يمكن القول إننا بصدد ذات تبحث عن معني لوجودها، وتسعي إلي إدراك لايقينها وجوهر إشكاليتها الوجودية من خلال السفر والغوص في الذاكرة وسبر الأفكار الداخلية. وقد توسلت الكاتبة في بحثها عن الذات وسبر أغوارها بتقنية »التماثل«حيث الشخصيات تتلاقي وتتشابه لتعبر عن الإحساس بالتيه وتعثر الأحلام. تجسد هذه الرواية قصة امرأة مطلقة وأم لطفل وحيد يبلغ من العمر سبع سنوات. رحلت من ريف مصر إلي منطقة »بروكلين« بأمريكا، رغبة في تحقيق أحلامها وإشباع ذاتها. ولكنها اصطدمت بواقع مرير مليء بالتناقضات عمَّق حيرتها وزادها اضطرابا وقلقا. إنه الواقع الذي تتشابك فيه تفاصيل الماضي وخباياه مع واقع مدينة »نيويورك« بكل ما يعتريه من عنصرية وعنف ديني واغتراب. تتوزع الذات في هذه الرواية عبر عالمين؛ عالم الذاكرة والحاضر. فالبطلة هند تجسد حيرتها الوجودية انطلاقا من ذلك التماثل القائم علي امتداد السرد بين الحاضر والماضي؛ أو بين واقع تعيشه وماض بعيد بتفاصيله المعقدة. هكذا يصبح المكان (سواء القرية أو العالم الجديد المتحضر) فضاء للبحث عن الذات. يسهم مثل هذا التماثل القائم في الرواية بين عالمين متوازيين إلي حد كبير في تجسيد خصوصية هذه الذات وفهم حيرتها الوجودية. بل إن هذا التوازي هو إحدي الوسائل الضرورية المعتمدة في بناء الشخصيات والفضاءات المتنوعة في النص؛ فكل شخصية تقابلها البطلة تِّولِّد في ذاكرتها، بواسطة التماثل، شخصيةً أخري، أو تستدعي بالضرورة حكاية أو مشهدا مستقلا بذاته، ولكنه يفضي أيضا إلي تأكيد أزمة الذات وحيرتها وترسيخ قلقها الوجودي. كذلك الشأن بالنسبة إلي الفضاءات؛ حيث تتعدد التقابلات بينها في النص فنغدو بذلك إزاء لوحات مكانية متعددة تعكس بدورها جوانب هامة وخفية من الذات التي تبحث عن الخلاص. وبهذا المعني يجسد السفر، أو يتحول قرار السفر إلي فعل، بعدما شعرت »هند« بأن تحقيق الذات رهين بالمغامرة. هكذا يمثل »جسر بروكلين« بالنسبة إليها نقطة عبور إلي عالم جديد ستتمثل من خلاله تفاصيل حياتها المعقدة. بيد أن مغامرة السفر توازيها مغامرة أخري أشد تأثيرا في الذات؛ وهي مغامرة الكتابة التي أمكن من خلالها لهذه الذات أن تحقق التواصل وتنشد الطمأنينة: »كانت تريد أن تكتب، كأنها ستموت لو ظلت الأشياء بداخلها كما هي مريرة ومتراكمة، وأنها تريد أن تنهي نصها الأول والوحيد الا أشبه أحدا«. لكن الكتابة عصية مثل أنثي جريحة، وأنها في الحقيقة لا تستطيع أن تتحرر من تلك الجروح. وأنها تبكي كثيرا، وتبحث حولها كالمجنونة عن تلك البنت الصغيرة التي كانت تسكنها. صارت فقط راغبة في التشرنق داخل هواجسها«. علي هذا النحو تصبح الكتابة فعلا يحيي الذاكرة ويبدد الهواجس ويعكس توق الذات إلي إضاءة بعض جوانبها الخفية والمعقدة؛ بل يمكن القول إنه يمنح معني للحياة التي أصبحت مجرد ريح من الحنين الآتي من الشرق. بيد أن السفر علي الرغم من أنه يسهم في تحقيق الذات، فإنه يضطلع كذلك بوظيفة أخري هي وظيفة الكشف عن التناقضات الداخلية والاضطرابات النفسية التي تحيط بالشخصية. ف »هند« علي سبيل المثال الم تكن تعرف أن حياتها ستصبح هججا دائما، وتغريبة طويلة، مثل قصة أبو زيد. لم يعد ذلك فقط ما تتوق إليه روحها القلقةب. لقد كشف فعل السفر عن غربة ليست مكانية فحسب، بل نفسية بالدرجة الأولي. أيقنت »هند« أنها وحيدة وبائسة، وأنه كلما عمَّقت تجربتها في الحياة (من خلال السفر أو التأمل في الوجود والذاكرة) ازداد يقينها في الطمأنينة وفي الخلاص. ولعل ذلك التوازي أو التماثل الحاصل بين الحاضر والماضي في الرواية يكشف عن نزوع الذات إلي الغوص في ذاكرتها وطفولتها بحثا عن السكينة. تدفن »هند« »رأسها في الأغطية أكثر، وتحلم بأشباح طفولتها، تحلم بحياتها التي تنساها، وتضيع من يدها«. ولكنها مع كل هذا الحنين تظل حياة قلقة مليئة بالتناقضات والأوهام والخوف. مما يدفعنا إلي القول، إن الذات كلما تقدمت في التجربة ازداد وعيها وإدراكها بماضيها. ولاشك أن هذه المراوحة بين الذاكرة والحاضر في توازٍ وتدرج مستمر هو ما يمنح هذه الذات نوعا من الإدراك ومن التقييم. ولاشك أن فعل السفر مزدوج؛ سفر في الذات وفي الأمكنة، وهو يعكس بذلك رحلة بحث عن ذات ممزقة وحيدة لا تعرف الخلاص. وكأننا بصدد عزلة نفسية واجتماعية لذات تائهة تدرجت الكاتبة في تصويرها إلي نهاية الرواية؛ حيث تحتدم بصورة أشد في النص، فتشترك باقي الذوات الأخري في المصير نفسه وفي تأملاتها الوجودية الخاصة. ولعل موت »ليليت« في نهاية الرواية أن يعكس رؤية الكاتبة حول رحلة الإنسان الحائر في البحث عن ذاته. لقد فقدت »ليليت« أو »ليلي السعيد« ذاكرتها أو جزءا منها ولزمت الفراش وكأنها تخلصت من ماضيها، فكان لابد لها أن تموت في بلد أشد قساوة علي الذات. لقد عزمت علي السفر لأنها لم تكن تعرف ما تريد، الرغبة في الخلاص هي الحافز نحو معرفة الذات ونشدان السكينة. تركت ابنها عمر وقالت باقتضاب: »أريد أن أمشي.. أنا لا أتحمل هذه الحياة.. سأسافر«. مثلما سافرت »هند« بحثا عن حريتها وأملا في تحقيق أحلامها. رحلت »ليليت« تاركة أوراقها ومذكراتها وشرائطها الموسيقية: »بعد أيام أغمضت ليليت جفنيها إلي الأبد، حين هز الحنين زجاج النوافذ ودخل، ليلمس روحها، فرحلت معه. سافرت وحدها كما جاءت من بلاد بعيدة«. تتماثل هنا صورة »»ليليت« مع صورة »هند« وكأننا إزاء ذات واحدة تواجه مصيرا مشتركا. كلاهما قرر السفر استجابة للحافز نفسه: البحث عن الذات. فهاهي »هند« تبوح بهواجسها وهي تقرأ خطابات »ليليت«: »شعر أنني كتبت كل كلمة فيها.. أنها أوراقي أنا، وأن تلك الخطوط بالفعل خطوط يدي، ولا أعرف كيف أخذت تلك المرأة التي ماتت كل ما أردت أن أقول، وأكتب؟«. في سياق هذا التماثل تعكس تجربة »ليليت« صورة »هند« وهي تبحث عن معني لحياتها قلما وجدته. كما يؤكد هذا التماثل بين الذوات القلقة كذلك توجه السرد في الرواية إلي تعميق فكرة البحث الدائم عن جوهر الأنا. إن حيرة الوجود وقلق الروح والخوف المستمر الساكن في الأعماق والتناقضات الدائمة والرغبة في الحرية وتحقيق الذات، جميعها قيم سعت ميرال الطحاوي إلي بثها في شخصيات الرواية وليس »هند« فحسب. لقد أرادت أن تجعل من هذه الذوات المختلفة صوتا واحدا ووعيا يعكس موقفا نحو العالم الذي أصبح أشد وطأة علي الإنسان وأكثر تعقيدا. لقد جعلت ميرال الطحاوي من السفر المزدوج (سواء في الجغرافيا أو في الذاكرة) وسيلة للبحث عن هذه الذات ومنحها معني إنسانيا. وأصبحت الكتابة لديها حلما مثلما أصبح السفر وسيلة لتحقيق هذا الحلم. علي هذا النحو تمثل الكتابة حافزا يسهم في تحقيق الذات، وفعلا خاصا يستطيع المرء من خلاله أن يدرك تناقضاته أو لغز أناه. والواقع أن هذه الذات التي تبحث عن الإرادة بواسطة الكتابة وحب المعرفة، تحمل طبيعة خاصة؛ فهي تعي وجودها أو تسعي إلي فهمه والإمساك بتفاصيله، كما أنها لا تكف عن إثارة الأسئلة ومجادلة الذات والبحث عن السكينة. إنها تحمل رؤية عميقة للحياة وقضايا المجتمع وجوهر الروح، كما تعبر عن أعماق الإنسان الحائر الذي يبحث عن معني لوجوده في خضم واقع متغير علي الدوام.