في تقليد يحسب لمؤتمر ( التواصل التراثي) الذي نظمه مؤخرا مركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية، حيث خصص جلسته الأخيرة لتقديم ستة رؤي من الباحثين المشاركين في المؤتمر، تتضمن تقييمهم لأعماله، ونقاط الضعف والقوة فيه، ولعل أهم نقطة سلبية أشار إليها د. حسن حنفي، لا تتعلق- من وجهة نظري بالمؤتمر- بقدر ما تلقي الضوء علي حال المجتمع، وهو ما عبر عنه بقوله بوجود حالة تربص بين القاعة والمنصة، هذه القاعة التي تخاف من طرح أي فكرة تخالف السائد لديها، أو علي حد تعبير د. حنفي ( أن القاعة لديها دائما مواقف مسبقة مما يقال، وأنه يتمني في العام القادم أن تكون القاعة أكثر رحابة والأوراق أكثر دقة)، وهو _أيضا- ما تحدث عنه د. رشدي راشد، حينما أشار إلي أن الكثير من الأبحاث طغي عليها الطابع الوصفي أكثر من الجانب التحليلي، كما أن الأبحاث إلي حد كبير دفاعية أكثر منها موضوعية. المؤتمر كان ساحة لطرح العديد من الأفكار حول التواصل التراثي وعلاقة المسلمين بالأمم السابقة، وكيفية التعامل مع النص القرآني، وكذلك بأي قدر أسهم الحضور العربي قبل الإسلام في صياغة المنظومة الحضارية العربية الإسلامية، وما الذي أخذه العرب المسلمون من علوم السابقين، وكيف أخذوه وهل طوروه أم حفظوه فحسب. بدأ المؤتمر بتقليد هام وهو إلقاء محاضرة إفتتاحية لواحد من كبار المحققين، أو كما أطلق عليه د. إسماعيل سراج الدين ( عميد المحققين) وهو د. رشدي راشد، وقد حملت محاضرته عنوان ( تجديد الأصول: نشأة الفكر العلمي والفلسفي في الإسلام)، وأنهها بثلاث ملاحظات، الأولي: هي أن من يريد أن يفهم حق الفهم نشأة العلوم والفلسفة في الإسلام عليه ألا يفصل بين نقل الأصول وتجديدها، فلا يمكن القول _ كما يردد البعض- أن هناك ثلاث مراحل: الترجمة ثم التمثل ثم الإبداع. فالإبداع بدأ قبل الترجمة وأثناء الترجمة وبعد الترجمة، الثانية: لا يمكن فهم نقل الأصول العلمية من رياضة وغيرها وكذلك الفلسفية دون الأخذ بالاعتبار ما تم في العلوم الإنسانية، من كلام وفقه وتفسير وتاريخ، الثالثة: لا يمكن الأخذ بما يقوله الكثير من المؤرخين وعلي سبيل المثال أحد أئمة مدرسة الحوليات الفرنسية فرنسان برودي فهو يقول: " ينقسم البحر الأبيض المتوسط بحدود ثقافية، حدود أساسية وحدود فرعية، حدود هي جروح لا تلتئم وتلعب دورها" أين هي هذه الحدود بين أثيناوالإسكندرية وبغداد، بين بغداد وبيزنطة، بين القاهرة والبندقية، ألخ، وإن كان لا يمكن قبول هذا، فبالأحري لا يمكن قبول هذا اللغو الذي نسمعه من أفواه عدة ولأهداف خفية عن الصراع أو الحوار بين الحضارات، فهم يعنون بهذا الحوار أو الصراع أساسا الإسلام والغرب، وأقول دون تردد إن الثقافات لا تتحاور ولا تتصارع ولكن يؤثر بعضها في بعض وتتفاعل، فعلماء الإسلام هم الذين تواصلوا مع الثقافة اليونانية، مع علمها وفلسفتها، تواصل وتفاعل القوي القادر، لا تواصل وتفاعل الضعيف الواهن، وذلك بتجديد أصولها وتطويرها في ميادين لم تخطر علي عقول الأوائل، أما الضعيف الواهن فلا يمكنه إلا أن يستعير ويقلد). شارك في المؤتمر باحثين من دول مختلفة، فجاءت مشاركة الفرنسية هيلين بيلوستا ببحث عن كتاب (المعطيات لإقليدس في التراث العربي وبدايات التحليل الهندسي) وهو يتناول كيف أعاد العلماء العرب من أمثال ثابت بن قرة، وإبراهيم بن سنان، وأبي سهل القوهي، وابن الهيثم قراءة كتاب المعطيات لإقليدس من خلال علم الجبر، فوسعوا نطاق تطبيقاته، ومنحوا الكتاب مغزي علميا جديدا، ومن لبنان جاءت مشاركة د. نادر البزري الأستاذ المساعد بجامعة كامبريدج البريطانية ببحث بعنوان ( مفهوم المكان ما بين أرسطو وإبن الهيثم). ومن الأبحاث التي أحدثت جدلا كبيرا في أروقة المؤتمر بحث د. هدية الأيوبي، الذي حمل عنوان ( تأصيل الأسطورة في القرآن الكريم) وفيه تطرقت إلي العلاقة الجدلية بين الأساطير والديانات السماوية، وعلاقة الأساطير بالتاريخ، وقد انطلقت في بحثها من تحديد لمفهوم الأسطورة فهي ( ليست مجرد نصوص وطقوس للعبادة بل بحثا عن الحقيقة في الغيب وعن قوة خارقة لمواجهة التحديات من أجل العيش)، أما القس وجيه يوسف فانا فركز في بحثه علي ( التواصل العقائدي بين المسيحية والإسلام .. عمار البصري نموذجا)، وقدمت د. ماجدة محمد أنور بحثا عن ( النقط وضبط الكلام من اليونانية والسريانية إلي العربية)، أما د. عادل محمد زيادة فتناول في بحثه موضوع (الحمامات السوق تراث إسلامي متوارث)، وقد أكد علي أن الحمامات لعبت دورا واضحا في الحياة الاجتماعية بالمدن الإسلامية، وأصبح سلوكا اجتماعيا جرت به عادة المجتمعات الإسلامية، فقد خضع لإشراف المحتسب خضوعا مباشرا من المفترض أن يكفل له استمرار عمله وفق القواعد والقيم التي تنادي بها الشريعة الإسلامية، ولفت د. عادل الأنظار إلي أن الحمامات أفرزت فنونا شعبية مرتبطة بها فيقول: ( إلي جانب ما قدمته الحمامات العامة من حفاظ علي مستوي النظافة العامة ومن كونها منتدي الأخلاء والأصدقاء ومتنفس للمرأة للخروج من بيتها، بالإضافة إلي دورها كدور علاجية ومساهمتها في الحفاظ علي الصحة العامة، لعبت الحمامات دورا هاما ظهرت من خلاله تقاليد جديدة علي المجتمع الإسلامي أصبحت من العادات الاجتماعية وعلي سبيل المثال تقاليد الزواج والختان، فقد أصبح الحمام يمثل جزءا هاما في مراسم الزواج، حيث كانت زيارة كل من العروسين للحمام، تكاد تكون تقليدا أساسيا بين ههذ المراسم، وأهتمت بذلك كل فئات المجتمع وتساوي في ذلك الغني والفقير، وإن اختلفت زيارة كل منهما فقط في مقدار فخامة موكب الزيارة والأبهة). وتوالت علي مدي أيام المؤتمر العديد من البحوث منها: ( التواصل الحضاري في مجال التراث الجغرافي العربي) د. عبد الله الغنيم، ( أصول ومقدمات التراث العربي من خلال كتاب الفهرست للنديم) د. أيمن فؤاد سيد، ( الأدب الجاهلي في ضوء نظرية مصادر التوراة) د. أحمد هويدي، (جدل التواصل والانقطاع في التراث الإسلامي) د. حسن حنفي، ( اللغة والدين والتواصل التراثي بين الجاهلية والإسلام) د. رضوان السيد.