لا تختلف مذبحة "أسطول الحرية" التي ارتكبها "جيش الدفاع" صباح الاثنين الماضي عن مذابح العصابات اليهودية ضد الفلسطينيين في قري "بلدة الشيخ" و"دير ياسين" ولا عن المذابح التي ارتكبتها العصابات نفسها بعد أن تحولت إلي أعجب دولة في العالم؛ مفتوحة الحدود لاقتناص أي أرض عربية تحقيقًا لأساطير توراتية. الكيان الممسوس بمطاردة الحياة، لم يتورع يومًا عن إعدام أسري حرب أو قصف مدرسة أطفال. ما اختلف هو نوع الضحايا، الذي لم يعد يقتصر علي أصحاب الأرض من الفلسطينيين والعرب، بل تطور ليشمل دعاة السلام، في مخالفة لكل تاريخ الحروب علي مدار التاريخ. وكان قتل الصبية الأمريكية راشيل كوري بالجرافة الإسرائيلية أثناء حملة 2003 الدموية علي غزة إشارة أولي إلي ما يمكن أن يحدث لمتطوعي أسطول الحرية، الذي ضم بين قواربه واحداً أيرلندياً تحمل اسم راشيل كوري. كانت راشيل علي أرض فلسطين عندما واجهت بجسدها النحيل الأعزل الجرافة في غزة، بينما كان الأسطول في المياه الدولية عندما هجمت عليه فرقة كوماندوز من جيش "الدفاع" وأودت بحياة تسعة عشر من ناشطي السلام وأصابت العشرات. وأمام فعل قرصنة كهذا لن يجدي استدعاء سفراء ولن تجدي الإدانة الدولية علي أي مستوي كانت، ولا يمكن التعبير عن حجم الغضب علي هذا الإجرام المهين للإنسانية. العزاء الوحيد في دماء هؤلاء الضحايا أن مجزرة الاثنين لن تكون حدثًا عابرًا في تاريخ الصراع، لكنها ستخلد بصفتها برهانًا جديدًا علي استحالة استمرار هذا الكيان بصيغته الحالية. وهي صيغة غير قابلة للحياة، لأنها تطلب المستحيل. النصر الكامل هو ما تطلبه إسرائيل. لا نية للتعايش، ولا فرصة للتعايش. وإذا كان الكيان يحمل أسباب توحشه في بنيته العقائدية التوراتية وفي بنيته التاريخية بوصفه كيانًا استيطانيًا مصطنعًا؛ فقد ساهم الضعف العربي في مد حبل الغرور له للإيغال في القتل، ويومًا بعد يوم يفقد صناع القرار الإسرائيلي القدرة علي التواضع، والقبول بالتعايش مع شعب آخر علي أرض فلسطين أو مع شعوب أخري في المنطقة. وهذا الضعف نفسه مع الانقسام الفلسطيني البذيء واللامسئول هو الذي يجعلنا متأكدين من أن الرئيس الأمريكي أوباما لن يتمكن من فرض نواياه الطيبة، لأن الإسرائيليين لن يقدموا شيئًا مجانيًا من أجل سواد عيون أوباما. هم يتصرفون الآن علي أنهم يجاورون موتي، ولا داعي للتفاوض مع الموتي. لكن حسابات التاريخ أعقد من أن تقاس بمرحلة عابرة، والشعوب العربية لم تزل حية، علي الرغم من الموات الرسمي. وفي الوقت نفسه لا يمكننا أن نغفل تصاعد موجة الإدانة للإسرائيليين في العالم الغربي المؤثر علي سياساتها. والأهم أن هذه الإدانة تأتي من أصوات يهودية لها وزنها مثل القاضي جولدستون صاحب التقرير الشهير والمفكر نعوم تشومسكي الذي منعته إسرائبل مؤخرًا من دخول أراضيها المسروقة. والحادث الأخير هو ذروة التصعيد العصبي الذي لن تنجح أموال الدنيا ولا ترسانات الإعلام الموالية في إخفاء بشاعته. جرب الإسرائيليون التواقح في تصريحاتهم حول الترحيب بالقادمين علي بقية سفن الحرية "مالم يعتدوا علي جيش الدفاع" وهو ادعاء لا يمكن أن يستدر الضحك، فالموت لا يسمح بهذه السخف، ولا يمكن لأحد أن يضحك من نكتة تهين كل منطق. نعم، كانوا أساتذة في التشاكي وادعاء الضعف، بينما تلوح الفصائل الفلسطينية ببنادق عديمة النفع أمام كاميرات التليفزيون، لكن دعاة السلام العزل لم يلوحوا بالبنادق ولم يحملوا غير بعض الطعام والشراب الرمزي للفلسطينيين المحاصرين بين توحش الاحتلال وفساد القيادة. كانت معنويات المتطوعين عالية، وصرحوا قبل انطلاقهم من الموانيء المختلفة أنهم يتحسبون لكل شيء، بما في ذلك المنع من دخول غزة والحصار في البحر أو السجن في إسرائيل، لكن ما لم يحسبوا حسابه هو الموت في عرض البحر بإرهاب دولة القراصنة.