المعلمون في المدرسة يتردد في دراسات تاريخ مصر الحديث عن أسرة محمد علي اسم شخصية شهيرة لإحدي سيدات القصر، هى »الوالدة باشا« التى يتذكرها الناس فى مصر من خلال بعض المسلسلات التاريخية، إنها الأميرة «أمينة إلهامى» زوجة الخديوى توفيق، ابنة إبراهيم إلهامى باشا من زوجته الأميرة منيرة سلطان ابنة السلطان عبد المجيد الأول، أم الخديو عباس حلمى الثانى، نذرت نفسها للعمل العام والخيرى بسخاء، فلقبت ب«أم المحسنين» ومن العلامات المشهودة من بين أدوارها أنها مولت وأنشأت المدرسة الصناعية الإلهامية. أقامت الوالدة باشا العديد من المدارس، من أهمها المدرسة الصناعية الإلهامية، ولهذه المدرسة حكاية. فقد كانت الأميرة تهتم باقتناء أفخر أنواع الأثاث، وكانت تهوى جمع التحف، من المقرنصات وأشغال الصدف النادرة والدقيقة وأشغال النجارة الدقيقة، وهى فى سبيل ذلك كثيرا ما كانت تستعين بأعظم الأسطوات فى مصر، واكتشفت بمرور الوقت أنها تحتاج إضافة إلى التصنيع إلى أعمال صيانة، تتطلب مهارة فائقة، وكان هذا الأمر يستغرق وقتا طويلا ممن يلتحقون بخدمتها من الأسطوات، نظرا لكثرة أعبائهم مما كان يقلقها. وتصادف أن سافرت الوالدة باشا إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وتكريما لما جادت به على أهل الحجاز دعوها لزيارة مكان يحتفظ فيه بكمية ضخمة من المصاحف، التى أهداها ملوك وأثرياء المسلمين من جميع أنحاء العالم، وأغلبها لها قيمة تاريخية وفنية عظيمة، ولما لاحظت الوالدة باشا أن هذه الثروة ذات القدسية غير معتنى بها، ويعلوها التراب، رأت ضرورة أن تحفظ فى صوانات تليق بجلالها، وعندما عادت إلى مصر أمرت عمالها بإنشاء الصوانات، وتحاشيا للضوضاء فى القصر نقلت الورشة إلى بدروم المدرسة الثانوية للبنين بالحلمية (مازالت موجودة فى تقاطع شارعى الماس والمدرسة الإلهامية وتسمى الآن مدرسة أم المؤمنين المشتركة) ونظرا لضيق المكان نقلت الورشة إلى أحد بيوت بنباقادن (أم عباس الأول) ويقع بجوار سبيلها بشارع الصليبة، واحتل النجارون الدور الأول، وشغل الصدفجية والخراطون الدور الثانى، وتمت الاستعانة بعدد من الصبية الذين كانوا يتعلمون فى كتاب السبيل، وحينما زاد عددهم فى الورشة طرأت لوكيل دائرتها فكرة تحويل الورشة إلى مكان لتعليم الصبية الحرف، فتلقفتها الوالدة باشا بالترحيب،وهنا ظهرت حنكة الموظف المصرى لإيجاد المسوغات القانونية لتمويل المدرسة، عندما نقب وكيل الدائرة فى الأضابير إلى أن وجد حجة جدة الأميرة التى تجيز تعليم 50 تلميذا بالكتاب، وبذا تم تحويل أوجه الصرف لتعليم صبيان الورشة التى صارت مدرسة بصفة دائمة. فى ذلك الوقت كانت فنون كثير من الحرف اليدوية الدقيقة التى تحتاج إلى مهارات صعبة وخبرات متوارثة تتعرض لمشكلة تناقص الأسطوات، حتى إن بعض هذه الحرف أصبح مهددا بالانقراض،لضعف العائد من ورائها وانصراف المشتغلين بها إلى اعمال أخرى تدر الدخل، هنا تطورت لدى الأميرة بإيعاز من مساعديها فكرة أن تتحول ورشة التعليم إلى مدرسة مستقلة، متخصصة فى تعليم الحرف للمحافظة على تراثها وخبراتها النادرة، فاستجابت الأميرة وفى التو تم انتقال الورشة من جوار سبيل أم عباس إلى حجرتين كبيرتين بالمبنى القديم للجامعة الأهلية، فى سراى الخواجة «نستور جناكليس"(حاليا فرع الجامعة الأمريكية فى ميدان التحرير) واستمرت به لمدة عام، حتى تم الانتهاء من إقامة مبنى المدرسة فى نمرة 20 شارع الفلكى مع تقاطع شارع محمد محمود، لتكون مدرسة بالمعنى المؤسسى للتعليم، ونسبتها الأميرة لاسم والدها الأمير «إبراهيم إلهامى باشا» إحياء لذكراه . . وهكذا ولدت المدرسة الصناعية الإلهامية. زودت المدرسة بإمكانيات عظيمة لم تكن تتوافر فى مجالاتها لأى مكان آخر فى مصر، من آلات وأدوات وخامات وبعضها تم استيراده من الخارج،وحشدت للمدرسة الخبرات الفنية والكفاءات العلمية، وفى يوم السبت الموافق 16 ديسمبر من سنة 1911 تم الافتتاح الرسمى للمدرسة الصناعية الإلهامية، حيث نظم القائمون على المدرسة زيارة إلى الوالدة باشا بكامل قوة المدرسين والتلاميذ، وقد ارتدوا جميعا الزى الرسمى الذى منحتهم إياه الأميرة، وكان عدد التلاميذ 120 والمدرسين 20 تحركوا من المدرسة سيرا على الأقدام، فى طابور منتظم حتى وصلوا سراى الأميرة بقصر النيل، فتراصوا فى حديقتها فى صفوف منتظمة،حينها خرجت إليهم الوالدة باشا تطل من شرفتها، وقد تزينت بملابس بيضاء،وهنا تقدم محمود فهمى باشا وكيل دائرتها والمشرف العام على المدرسة وهتف الباشا بالدعوة باللغة التركية للأميرة، يردد الجميع خلفه، وما إن انتهى الدعاء لوحت لهم تحييهم وتعبر عن استحسانها، وبعدها ألقى الباشا خطبة عصماء عدد فيها مناقب الأميرة وأفضالها، وبهذه المناسبة صرفت الوالدة باشا ريالا لكل تلميذ، ومركوبا أحمر وغزلية من الصوف لك مدرس، فهتف الجميع امتنانا وصفقوا لها، وبعدها نادى الباشا عليهم بالانصراف. قبل الافتتاح الرسمى تعاقد محمود فهمى باشا مع الأسطى محمود عزب ليقوم باستكمال الأسطوات اللازمين للتعليم، بمرتب شهرى 800 قرش، يتقاضاهم من دائرة الحلمية، وقد اكتشف الباشا هذا الصدفجى الفذ بالصدفة عندما كان يمر من أمام دكان عزب الصغير، فلاحظ أن يافطة الدكان مصنوعة من الصدف بمهارة لا مثيل لها، فألحقه بورشة القصر فأظهر براعة وتفردا، لكن مالم يكن الباشا محمود أو الأسطى محمود يدركانه وقتها أن هذا الأسطى سوف يلعب دورا غير متوقع فى ارتقاء الجانب الإشرافى والإدارى للمدرسة،رغم أنه لايجيد القراءة والكتابة،حدث بعد افتتاح المدرسة أن تناوب على نظارتها أكثر من ناظر من غير أبناء المهنة، لكنهم فشلوا فى إدارتها نتيجة عدم درايتهم بخصوصية الدراسة، مما تسبب فى خلافات مع الأسطوات فى الأقسام المختلفة، لذلك عينه الباشا ناظرا لما له من خبرات ومكانة رائدة بين الأسطوات، وشخصية قيادية ورجاحة رأى وفهم لطبيعة المهن، وأثبت اختياره بعد نظر الباشا، فقد نجح عزب بجدارة فى إدارة شئون المدرسة، وعندما حاز الثقة أوكلت إليه كافة شؤون العملية التعليمية والإدارية، ومن الطريف أنه بعد توليه النظارة صمم الباشا أن يبدل عزب ملابسه البلدية بأخرى أفرنجية، المدهش فى هذا التحول أن الملابس الأفرنجية صنعت بقسم الترزية فى المدرسة، ومن أدواره فى تلك الفترة أن ابتدع فى المدرسة مشغولات وصناديق مطعمة بالذهب الذى يمتد عميقا فى الخشب، وإن كان يبدو كما لو كان قشرة، ترسل للوالدة باشا فى تركيا، كى تغطى مصاريفها من هذا الذهب، فأغدقت عليه بعد عودتها عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، التى اضطرتها للبقاء هناك طويلا بمكافأة سخية. ولأنه واسع الأفق كان دائم السفر إلى الدول الأوروبية، للتعاقد على المعدات الحديثة، والخامات، وكما غير الزى غير أيضا السكن وانتقل من حارة القزازين بالدرب الأحمر إلى شارع شبرا، واستبدل الموتوسيكل «السيد كار» بأوتومبيل. كانت المناهج الدراسية فى الإلهامية تشمل تعليم القراءة والكتابة والخط العربى والإملاء والحساب ومبادئ الهندسة، لكن الجانب الأكبر من الدراسة كان يعتمد على إكساب التلاميذ المهارات اليدوية، فى مجالات المهن التى تخصصوا بها، مثل صناعة الأثاث على الطراز العربى، واعمال الصدف المستخدم فى أغراض مختلفة، ومشغولات العاج والأبنوس، وأشغال الأويمة والحفر على الخشب، ومن أقسام المدرسة قسم خاص بتعليم الطباعة والتجليد، وآخر للنقش على المعادن ونقش الزجاج، وورشة للتطعيم يقوم فيها التلاميذ الأقدم بأعمال التشطيب النهائى للمنتج قبل دهانه، كما كان يوجد قسم به أنوال لتعليم فنون السجاد اليدوى، وأقسام لصناعة الأحذية، والملابس الأفرنجية، وصناعة الطرابيش، والعصى الثمينة، وقسم لصناعة الباب والشباك العربى.وكانت المدرسة تتولى إطعام التلاميذ وكسوتهم، ويوقع المتقدم على إقرار ألا يترك المدرسة قبل خمسة أعوام، على أن يمنح أجرا بعد ثلاث سنوات، فى حين يمنح المتميزين أجرا قبل ذلك. وكان من المميزات التعليمية والتربوية فى المدرسة نظام العمل، الجماعى حيث يناقش الأسطوات مع تلاميذهم فى المراحل المتقدمة الاتفاق على خطة وطريقة تنفيذ المشروع لما سيتم إنتاجه. كان من أعلام الدراسة أسطوات عظام، من أمثال حسنين القراش وكامل الطنوبى وحسين خليل السيسى وعلى رخا وإبراهيم السيوفى. وقد تخرج من هذه المدرسة مشاهير، أثروا بجدارة عالم المهن التى تعلموها، أسهموا فى نجارة المساجد والقصور وإنتاج تحف نادرة من المقتنيات، ومن أمثالهم رمضان السمينى المشهور برمضان الوزيرى ومحمد عثمان نمنم وعبد الخالق درويش ومحمد أحمد بيومى من أهم من صنعوا المشربيات وأحمد عثمان معجزة الحفر على الخشب، ومن بين من قاموا بالتدريس أسطوات أجانب فى مجال الحفر على الخشب، أغلبهم كانوا إيطاليين منهم جيتانى، أول رئيس لقسم الحفر على الخشب، وسماه المصريون غيطانى. يبدأ طابور المدرسة فى الصباح فى تمام السابعة والربع، عندما يدق الجرس الأول، حيث يصطف التلاميذ طبقا لأقسامهم، ويتم التتميم والتفتيش على مظهرهم فى نظافة الملابس والأحذية، ونظافة وقص الأظافر والشعر، ومن لا يلتزم بقواعد المظهر الشخصى يتم رجوعه إلى بيته حتى يستوفى شروط هيئة التلميذ الواجب الالتزام بها، والمسئول عن هذه الوظيفة ضباط النظام بالمدرسة، وهم خريجون قدامى يتصفون بقوة الشخصية، دورهم هو الإشراف والانضباط، وفى السابعة والنصف صباحا يدق الجرس الثانى، فيتحرك التلاميذ صفين منتظمين إلى أقسام تخصصاتهم ليبدأوا الفترة الدراسية الأولى، وفى التاسعة والنصف يدق جرس الفسحة الأولى التى تمتد حتى العاشرة، وفيها تصرف وجبة الإفطار ويقدم الشاى، ولأن التدخين كان ممنوعا على المدرسين فى الورش والفصول كانت هذه الفسحة فرصة للمدخنين منهم، واعتبارا من العاشرة صباحا حتى الثانية عشرة ظهرا تستمر الفترة الدراسية الثانية، يعقبها الفسحة الثانية، وتستمر لمدة ساعة وخمس وعشرين دقيقة، حيث يتم تناول وجبة الغداء فى المطعم وبعدها يقضى التلاميذ وقتهم فى الفناء، وفى نهاية الفسحة يدق جرس المدرسة فيصطف الطابور ويتوجه الجميع إلى فصولهم، حيث تبدأ الفترة الدراسية الأخيرة من الواحدة والنصف حتى الساعة الخامسة مساء، لينتهى بذلك اليوم الدراسى. أولت إدارة المدرسة بجانب العملية التعليمية اهتماما كبيرا بأوجه النشاط المختلفة، فكانت تنظم الرحلات المجانية للطلبة كافة،إلى أماكن الثقافة والترويح كالمتحف المصرى وحدائق الأورمان والحيوان والقناطر الخيرية وغيرها، ومن الأنشطة فريق للكشافة يرتدى زيا خاصا كما هى الفرق الكشفية، واستعانت إلإدارة بهذا الفريق للمساعدة فى تنظيم المناسبات والاحتفالات، وحفظ النظام فى المسيرات التى تتم لقصر الوالدة باشا فى المناسبات الخاصة والأعياد، كما تكونت فرقة موسيقية من التلاميذ الذين يجيدون العزف على الآلات المختلفة، وكان يستعان لتدريبهم بأساتذة متخصصين من خارج المدرسة، ودائما ماكانت هذه الفرقة تشارك الاحتفالات المدرسية والمعارض الخارجية لمنتجات الأقسام، وقد حرصت إدارة المدرسة على أن يتم ممارسة الأنشطة فى غير أوقات الدوام الدراسى.ومن المعروف أنه كان ممنوع على التلاميذ الوجود خارج الورش والفصول منعا باتا، إلا من تستدعى الضرورة له عكس ذلك بتصريح من الأسطى أو المدرس، هذا التصريح عبارة عن قطعة نحاس مستطيلة محفور عليها اسم القسم، ومن يخالف هذه القاعدة يتعرض للعقوبة. مع توسع المدرسة تضعافت تكاليف احتياجات المواد الخام، من أنواع الأخشاب النادرة وعروق الذهب والتبر، والجلود والأبنوس والساج الهندى وأنواع العظام والسن وقرون الحيوان، وغيرها من خامات عديدة مرتفعة الأثمان، لكن مشكلة القفزة فى المصروفات لم تكن معضلة يمكن لها أن تعوق ازدهار المدرسة، بل كانت مدعاة لقيام نظام اقتصادى يساعد على تمويل المتطلبات المالية المتزايدة، تمثل فى إقامة معارض خاصة بالمدرسة تبيع منتجاتها، هى المعرض الكبير بشارع سليمان باشا، ومعرض بفندق شبرد، ومعرض بمدينة بور سعيد، والمشاركة فى معارض المملكة المصرية الرئيسية، وحققت هذه المعارض مكاسب عظيمة للمدرسة، وبلغ من روعة منتجات ا حلإلهامية أن عملاءها لم يقتصروا على أمراء وأثرياء مصر فقط، فقد ذاع صيت منتجاتها عالميا، وعلى سبيل المثال لا الحصر كان ممن اقتنوا منتجاتها ومشغولاتها الفائقة الجودة والإبداع إمبراطور الحبشة، وملك سيام الذى اشترى أثاث قصره منها، وبابا روما وأمراء ونبلاء أوربيون كثيرون، أول اشتراك فى معرض للدولة كان سنة 1916 فى قصر أنطونيادس بالإسكندرية افتتحه السلطان حسين كامل، وكانت منتجات المدرسة الإلهامية تباع بكاملها فى الأيام الأولى من المعارض العامة. كانت المدرسة الإلهامية صفحة إبداع وتألق، وسردية عطاء جليل، ما كان لها أن تلقى نهاية حزينة كتلك التى ألمت بها نتيجة الإحن والتنازع بين أفراد الأسرة الحاكمة، إذ أمر الملك فؤاد بصفته حاكم البلاد تمكينه من النظر الحسبى على وقفقها (الممول الرئيسى للمدرسة) وترتب على هذا أن رفعت وزارة الأوقاف دعوى أمام المحكمة الشرعية ضد الأميرة أمينة إلهامى، اسفرت عن نزع ولايتها على وقف جدتها بنباقادن، وآلت المدرسة إلى إدارة الأوقاف الملكية، التى محت تسمية المدرسة الإلهامية وأبدلته بمدرسة بنبا قادن الصناعية، فقد كان الملك فؤاد يبغض الوالدة باشا والدة الخديوى عباس حلمى منافسه على عرش مصر، ومن نهاية العشرينيات من القرن الفائت بدأت عملية تصفية المدرسة عن عمد، فتلقف التجار الأجانب أسطواتها وتلاميذها، وبحلول يناير سنة 1930 تحول هذا الصرح العظيم إلى صفحة فى ذمة التاريخ، وبعد عام توفيت الوالدة باشا، فباع ابنها فيها الأمير محمد على توفيق أرض المدرسة إلى ثرى يونانى، قام بهدم مبنى الإلهامية وأنشأ مكانها مدرسة للجالية اليونانية، يشغلها حاليا أحد مبانى فرع الجامعة الأمريكية بميدان التحرير، يطلق عليه الجريك كامبس.