لابد - بعد الثورة - من فهم الديمقراطية الثقافية.. علي نحو يدين الغياب الشائن لها أحيانا، أو الحضور الشائن لها في أحايين أخري! آثرت باستمرار عند حديثي عن الشأن الثقافي، والعيوب البنيوية التي تحكم هذا الشأن، من خلال خبرة المتابعة للهيئات والمؤسسات الثقافية (الحكومية بالذات) والتعامل معها لأكثر من أربعين عاما الآن.. آثرت، في نقدي لهذه المؤسسات، ألا أتوقف عند أسماء وأشخاص، مهما كان حجم تأثير هذه الأسماء وهؤلاء الأشخاص في تحديد المسارات، وتكريس السياسات، وترسيخ الأوضاع، التي ربما صارت عليها هذه المؤسسات لحد كبير (وربما لحد الآن) لقناعتي - خصوصا بعد الثورة - بأن الهدف ليس النيل من فلان (حتي لو استحق ذلك)، أو الثأر والتعريض بعلان (حتي لو كان جديرا بهذا).. وإنما تصحيح مسار المؤسسة الثقافية المعينة، والعودة بها إلي الطريق القويم الذي جعلت له وانشئت من أجله، والذي تم نسيانه في خضم المصالح الذاتية، والفوائد الشخصية، والسياسات البرانية الزائفة، التي حرفت هذه المؤسسة أو تلك عن هدفها الأصلي وغايتها الأساس. ولعل أولي هذه الآفات التي نلحظها جميعا علي القائمين بأمر هذه المؤسسات- أو علي معظمهم - تشدقهم الدائم بالديمقراطية، وتداول السلطة، واحترام الاختلاف والتعدد وحرية التعبير.. الخ، ولكنهم يقاتلون من أجل البقاء في مناصبهم وكراسيهم المختلفة بكل الوسائل والطرق الممكنة وبعقود متطاولة.. وكأنهم يعنون بهذه القيم (الديمقراطية وتداول السلطة.. الخ) الدائرة السياسية فقط.. أما إذا وصلت المسائل إلي الدائرة الثقافية.. اختلف المبدأ، وتنكر له الجميع!.. ولست في حاجة إلي ضرب الأمثلة، فلن نعدم - عند استعراضنا لمؤسساتنا الثقافية المختلفة، حكومية وغير حكومية - برهان ما نقول!.. وبرغم ذلك اكتفي بإشارة واحدة للتمثيل، أشير فيها إلي واحدة من اللجان الهامة في تقرير شأن فني إبداعي هام من فنوننا الإبداعية، فإذا برئيس هذه اللجنة، يتربع عليها لأكثر من ربع القرن الآن، ويرفض أن يتزحزح عنها، ومن ثم يكرس - من خلال هذاالتشبث غير الصحي بمقعده - لتصورات ومفاهيم وأفكار ومرجعيات في ممارسة هذه اللجنة لعملها.. ليست هي وحدها- علي الأقل - الأفكار والمرجعيات الصحيحة، ومن ثم يثبت ويجمد - بمنطق الشلل - لموقف بعينه ورؤي بذاتها يري لصحتها وسلامتها (من وجهه نظره طبعا) في فهم هذا الفن الإبداعي الجميل.. ويتخذ موقفا معاديا لاتجاهات التطور فيه، هو وفريق كلاسيكي بظاهره ويقف معه علي نفس الأرضية الرجعية المتصلبة، بينما لايفتأ يتشدق فيما يكتبه من مقالات بالديمقراطية وتداول السلطة والتعدد.. الخ!.. وهذا الموقف ليس استثناء في حياتنا الثقافية كما أشرت.. وبغض النظر عن (س) أو (ص) - كما قلنا - فالأصل في هذه المواقع، هو تغيير المسئولين عنها بعد عدد معين (ومحدد) من السنين.. تمشيا مع التطور والتغير، واتساقا مع الموضوعية المفترضة، وإعمالا لديمقراطية الفرصة وتجردها.. ولاختلاف الذائقة.. وجريان الزمن.. الخ، ومن غير المعقول أن نشجب التوريث - مثلا - وسرمدية السلطة السياسية وطغيانها، ونتبع نحن نفس الآليات الدكتاتورية في جوهرها في ممارساتنا الثقافية، وفي إدارة مؤسساتنا الثقافية!! ولاتعاني المؤسسات الثقافية فقط، من هذا الفهم الغائب تماما للديمقراطية، كما أشرناتوا.. بل من الحضور الشائه لها - أقصد الديمقراطية - في سياقات أخري، وهذا الحضور الشائه للديمقراطية المزيفة في بعض نواحي العمل الثقافي له الآثار السلبية نفسها لغياب أي حضور للديمقراطية بالمعني الصحيح.. فأن تخصص بعض هيئات النشر في وزارة الثقافة.. سلاسل متعددة، أحيانا شهرية، أو نصف شهرية، أو اسبوعية في فترات سابقة!.. لإبداعات الشباب في القصة والرواية والشعر والمسرح والنقد.. الخ، فهذا هدف محمود بدون شك، واجراء شديد الديمقراطية في ظاهره وباطنه العذاب.. الغرض الأصلي منه تشجيع الشباب - خصوصا في الأقاليم - والأخذ بأيدي الناشئة وشداة الأدب الطالعين في كل مكان من الوطن الكبير.. ولكن أن تتحول المسألة إلي نشر واسع لأجيال وأجيال من الشباب.. (أكثره غث وأقله سمين أو ثمين!).. هنا الخطورة التي تميع القيم، وتسطح المستوي، ويتحول حلم النشر الذي كان يحدونا في شبابنا الباكر إلي التفوق والإجادة، إلي استسهال واستهبال، بل ان خطورة هذه المسألة أنها تؤدي بالتدريج إلي انحدار معايير الجودة، وإلي هبوط مستويات الكتابة، إلي حد أن كل من كتب أي كلام فارغ، ودبج أية خزعبلات، اعتبر انه عبقري الشعر أو فلتة القص!.. ودليله هو كتابه المنشور!.. أليس لكل ما هو مطبوع مصداقيته وسحره وصك اعتماده!.. الخلاصة هنا، انني أندد بهذه الديمقراطية الزائفة في النشر، وأشدد علي عودة لجان القراءة الأمينة المتخصصة (وذات المصافي الضيقة جدا) في تحديد معايير الجيد والمتميز والموهوب حقا، حتي لاتنبهم الرؤي، وتضيع الفوارق، وينحدر الإبداع، ويجب أن يتحرر هذا المجال تماما (من عقدة كتاب الأقاليم)، الذين تتم مجاملاتهم بدعوي بعدهم عن أضواء العاصمة، وقلة الفرص المتاحة لهم، فيتم التجاوز، عن معايير الجودة والكفاءة والكتابة الموهوبة الحساسة بالنسبة لهم ولغيرهم حتي من كتاب العاصمة.. وفي هذا السياق نفسه، يجب ألا يتسع مجال النشر في مؤسسات الدولة - بشكل عام - للمعارف والمحاسيب، أو أصحاب السلطات الإعلامية المختلفة الذين تظهر عليهم أعراض الكتابة فجأة بحكم مناصبهم الإعلامية، ومواقعهم المؤثرة، وإنما أن يكون النشر - ويظل - حقا مشروعا وواجبا - كما قلنا - لأصحاب المواهب الكبيرة والإبداع الفذ والتجديد اللافت. وقل مثل ذلك علي مؤسسة أخري من مؤسسات وزارة الثقافة، وهي "لجان التفرغ" التي تمنح الدولة بمقتضاها (منحة تفرغ) للمستحقين في المجالات الإبداعية المختلفة (قصة - رواية - شعر - فن تشكيلي - مسرح.. الخ).. من أجل (الإبداع) طبعا.. وفي هذا السياق ذهلت من عشرات ومئات الأسماء التي تنعم بهبات التفرغ وعطاياه لسنوات عديدة، تصل لدي البعض إلي ما يتجاوز ربع القرن!.. ولا أعرف منهم اسما واحد لامعا في أي مجال إبداعي!.. أنا المتورط في الحياة الأدبية والفنية لما يزيد عن أربعين عاما الآن كما نوهت سابقا!.. التفرغ، والمنح المعطاة (للإبداع) ليست تكايا - ياسادة.. أو معونة شتا، أو رعاية لشئون إجتماعية، وليست جمعية (رسالة) مثلا، أو غيرها من جمعيات الخير والبر والتكافل الاجتماعي!.. منح التفرغ، حتي (للموهوب) و(المبدع الحقيقي) و(الفنان الأجدر) و (الشاعر المغلق).. الخ، وتوزيع هذه المنح علي الجميع (بمنطق توزيع الفقر) يحرم المبدع الحقيقي من قيمة عادلة لتفرغه وإبداعه لأن الميزانية المحددة وربما المحدودة ستوزع علي الجميع (المستحق وغير المستحق) بمنطق قسمة الغرماء.. فبدلا من أن يأخذ المتفرغ (المستحق الموهوب) مقابلا عادلا ومجزيا لتفرغه وانتاجه يتقاسمه مع عدد من غير الموهوبين، ومن ثم، يظلم الجميع، يظلم الموهوب المستحق لانه حصل علي أقل مما هو جدير به، بحكم امكاناته ومواهبه، ويظلم غير المستحق وغير الموهوب لأنه (يتوهم) انه يحتاز (موهبة) لايملكها، ويملك (امكانيات إبداعية) هو عار منها تماما في الحقيقة، ومن ثم، يظل يزاحم الموهوبين، أو يقدم- في أحسن الأحوال - ما يتوهمه إبداعا فذا، وهو محض كلام فارغ! لابد - بعد الثورة - من إعادة النظر، في هذه الأداءات المسيئة للثقافة، وإعادة الأمور إلي نصابها الصحيح، وفهم الديمقراطية الثقافية علي نحو يدين الغياب الشائن للديمقراطية أحيانا، أو الحضور الشائه لها في أحايين أخري!