يبدو أن البرلمان البريطاني قد تمكن من وضع يده علي ملف بريكست تماما بعدما منح نفسه سلطة تحديد المسار المستقبلي للخروج من الاتحاد الأوروبي وهو ما يعني بشكل أو بآخر أنه انتزع صلاحيات أساسية من رئيسة الوزراء تيريزا ماي ومنحها لنفسه. ففي ليلة مليئة بالدراما في مجلس العموم البريطاني، فاجأ النواب الحكومة وصوتوا بأغلبية 312 صوتًا مقابل 308 لرفض خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق تحت أي ظرف من الظروف، وعلي الرغم من أن التصويت ليس ملزمًا بموجب القانون الحالي، حيث كان لا يزال بإمكان بريطانيا المغادرة بدون اتفاق في 29 مارس الجاري، إلا أنه مؤشر علي فقدان رئيسة الوزراء البريطانية السيطرة علي حزب المحافظين، حيث صوت العديد من النواب المحافظين علي العكس من رغبة الحزب. وفي اليوم التالي أيد النواب البريطانيون طلب الحكومة تأجيل موعد البريكست، الذي كان مقررا في 29 مارس القادم حتي 30 يونيو، في حال وافق النواب علي خطة ماي الثالثة التي ستطرحها للتصويت من جديد حول اتفاق الخروج من الاتحاد الاوروبي يوم الأربعاء القادم، حيث أيد 412 نائبا إرجاء موعد بريكست في حين رفضه 202 آخرون. بينما رفض النواب وبغالبية كبيرة تعديلا ينص علي إرجاء البريكست تمهيدا لإجراء استفتاء ثان حول خروج لندن من الاتحاد الأوروبي. مدة تأجيل البريكست ليست معلومة حتي الان، وسيتم تحديدها اعتمادًا علي ما إذا كان النواب سيدعمون الاتفاق الحالي الذي توصلت إليه رئيسة الوزراء مع الاتحاد الأوروبي بحلول 20 مارس الجاري، وهذا يعني أن تيريزا ماي قد تقوم بمحاولة ثالثة لتمرير الاتفاق عبر البرلمان في الأيام القليلة المقبلة، علي الرغم من رفض مجلس العموم الموافقة علي الاتفاق مرتين عند عرضه عليه. وحذرت ماي النواب، من أنهم إذا فشلوا في الموافقة علي اتفاقها بحلول 20 مارس الجاري، فقد يمكن تأجيل الاتفاق لأطول من ذلك، وقد يتصادم مع انتخابات البرلمان الأوروبي المقرر لها في مايو المقبل، وفي هذه الحالة يتعين علي مجلس العموم مواجهة عواقب القرارات التي اتخذها. من المقرر أن يلتقي قادة الاتحاد الأوروبي في 21 مارس الجاري في بروكسل لتحديد موقفهم النهائي من تأجيل خروج بريطانيا منه. وسيطالب رئيس المجلس الأوروبي، الدول الأعضاء بقبول فكرة التأجيل، حيث يجب أن يوافق أعضاء الاتحاد الأوروبي »27 دولة» علي أي طلب لتأجيل موعد خروج بريطانيا، ويري ميشيل بارنييه كبير مفاوضي الاتحاد في محادثات بريكست أن الاتفاق الحالي هو الوحيد المتاح، ولا طائل من اعتماد لندن علي أي درجة من الرأفة في موقف الاتحاد، الذي أعلن صراحة عن عدم استعداده للمضي قدما نحو أي تنازلات. وسيرحب الاتحاد بإلغاء البريكست أكثر من عقد اتفاق بشأن خروج بريطانيا منه، لذلك فمن المرجح أن يوافق علي مفاوضات جديدة، لكنه في الوقت نفسه سيحاول إفشالها، والتمسّك بمواقفه الصارمة، فيدفع بريطانيا لطلب مهلة إضافية، حتي ينضج القرار البريطاني بإلغاء البريكست. وترغب بروكسل، من وراء ذلك في إعطاء درس قاس ليس فقط لبريطانيا، وإنما لأي دولة عضو في الاتحاد تسول لها نفسها التفكير في الانفصال عن الاتحاد مستقبلا.. التصويت الاخير الذي اقترحته الحكومة البريطانية، يقول إن بريطانيا يجب ألا تترك الاتحاد الأوروبي دون اتفاق في 29 مارس، ولكن يمكن الخروج دون اتفاق في أي وقت آخر. وأرادت الحكومة الحفاظ علي السيطرة علي عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والإبقاء علي خيار الخروج دون اتفاق مطروح علي الطاولة، لذا أمروا نواب المحافظين بالتصويت ضد الاقتراح، إلا أن هذا التكتيك فشل، حيث تحدي وزراء في الحكومة تلك الأوامر، وهو ما دفع العديد من المراقبين إلي القول بأن تيريزا ماي فقدت السيطرة علي حزبها. والسؤال الان: هل يمكن تجنب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهل يمكن تجنب انهيار الاتحاد الأوروبي؟ إلغاء نتائج استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بالنسبة لبريطانيا يمثل علامة علي انهيار النظام السياسي، وهو ما سيؤجج أزمة داخلية طاحنة هناك. في الوقت نفسه فإن تداعيات انهيار »البريكست» في بريطانيا لن تكون بسيطة، بل ولن تنتهي تلك الأزمة بمجرد استقالة حكومة تيريزا ماي، والدعوة لانتخابات مبكرة، بل علي العكس، لن تكون تلك إلا بداية لأزمات أخري. فقد اتضح خلال عملية التصويت عجز القوي السياسية عن إيجاد مقاربات وتسويات ترضي جميع الأطراف، بينما ينذر ميزان القوي السياسية الآن، بجعل عملية توحيد صف المجتمع البريطاني أمرا مستحيلا، وأصبح حجم وتعقيد القضايا مستعصيا علي الحل. إضافة إلي ذلك، فإن إلغاء »البريكست» لن يحل مشاكل لندن مع الاتحاد بعد ان تعقدت وسيتعيّن علي لندن أن تصارع بروكسل بشأن القضايا العالقة، بغرض إرضاء المواطنين البريطانيين، الذين صوتوا لصالح »البريكست». وهو الأمر الذي سيزيد من الاحتكاك بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، وسيزيد من الأزمة العامة للاتحاد الأوروبي.. الدلائل كلها تشير إلي أن بريطانيا حتي وإن فشلت في الخروج من الاتحاد الأوروبي من المحاولة الأولي، فسوف تخرج منه عاجلا أو آجلا، وكذلك سيفعل أعضاء آخرون في الاتحاد.