عندما صدح المتنبي ببيت الشعر الذي قال فيه »وَكَمْ ذَا بِمِصْرَ مِنَ المُضْحِكَاتِ وَلَكِنَّهُ ضَحِكٌ كَالبُكَا»، لابد أنه لم يكن وقتها قد ركب قطاراتها، ولا كان لديه حساب علي الفيس بوك، ولا فقد عقله وهدوءه وهو يتابع ما يقدمه إعلامها التقليدي والالكتروني، فلو قدر للمتنبي أن يكون بيننا اليوم لغّير ما قال، ولجلس حزينا يرثي نفسه ويهجو واقعا يبدو كجنون، ليكتب : وكم ذا بمصر من المبكيات! والمبكيات خلال الأيام الماضية مصدرها كارثة محطة مصر، لكن تلك المبكيات لم تتوقف عند حدود الأجساد التي نهشتها النيران، فشبعت من لحمها حتي صهرت عظامها. والمبكيات لم تنته بذلك الانفجار المروع، ولا بالمشهد البائس لرجال يحاولون بقوارير المياه أن يطفئوا الأجساد المشتعلة بلهيب الإهمال، قبل أن تطالها نيران القطار.. المبكيات لم تقتصر علي المكلومين من أسر الضحايا الذين وقفوا بالساعات في انتظار أن يتسلموا جثة بلا ملامح، وسارع بعضهم ليقدم دليلا يصلح لتحليل الحمض النووي، كي يتسلم ما تبقي من شقيق أو أب أو ابن، يدفن مع لحمه الذي تفوح منه رائحة الشواء، قهرا وحزنا لا تطفئه جبال من جليد. المبكيات امتدت لكثير من الهوامش علي دفتر الكارثة، وأحيانا تكون الهوامش أكثر فداحة من متن المصيبة، لأنها تكشف مصائب تتواري خلف ركام التجاهل، فمن مبكيات إهمال سائقي القطارين المتهمين بالحادث واستخفافهم بحياة الناس، إلي الإهمال والفساد بغياب وسائل السلامة وأدوات الحماية المدنية داخل المحطة، وصولا إلي تلك البلادة واللامبالاة لمن وقفوا يلتقطون صور السيلفي فوق أجساد الضحايا، ومن يتفاخرون بتصوير الفيديوهات ليتباهوا بين الأصدقاء عندما يتجمعون علي المقهي في مساء ذلك اليوم الحزين بأنهم كانوا هناك، عندما وقعت الكارثة! أما المبكيات التي ستطول الدموع أمامها، لأن من يبكي بسببها هو العقل، فهي مبكيات الإعلام سواء التقليدي وبخاصة التلفزيوني، الذي بدا أن »حفلة الشواء البشرية» في محطة مصر، تجري في بلاد الهند مثلا، وليست علي بعد أمتار من مبني ماسبيرو العريق، أو مبكيات ذلك الإعلام الإخواني »الموتور» الذي يتمني أن تحترق مصر كلها ليرقص فوق رمادها طربا وشماتة، بحثا عن مجد زائل لن يعود!! أما بقية الوسائل غير التقليدية، وبخاصة الإلكترونية منها سواء في المواقع أو وسائل التواصل الاجتماعي، فكانت علي موعد مع كارثة أخري، فبخلاف »حفلات الهري» التي اجتاحت صفحات التواصل وتلك الفيديوهات التي تباري النشطاء في نشرها بحثا عن »لايك» هنا» أو »كومنت» من هناك، فقد تجسدت ذروة »الجنون الإعلامي» في فضيحة نشر الأخبار المتعلقة بترشيح المهندس محمد وجيه عبد العزيز المتوفي منذ 11 عامًا ليشغل منصب وزير النقل الشاغر(!).. وتبارت المواقع والصفحات والقنوات، في نقل الخبر ومشاركته علي أوسع نطاق، لتنكشف منظومة »الهري» وتنفضح ممارسات »الخبل الإعلامي» الذي نعيشه. وقبل أن ينتهي اليوم، كانت القنوات التي تبارت في الصباح في تناقل الخبر »المضروب»، تتنافس مجددا في تقديم فقرات حول سبل مكافحة الشائعات وانتشار الأخبار الكاذبة! في تلك الليلة يقال إن المتنبي مات كمدا، ووجدت إلي جواره مجموعة قصصية للراحل نجيب محفوظ، عنوانها »الشيطان يعظ»!!