لا يوجد إنسان إلاّ ولديه خريطة أو حصر أو قائمة بواجباته العامة والخاصة أو الشخصية، وربما بجدول داخلي لأولوية هذه الواجبات وأفضلياتها وأكثرها لزومًا أو أرخاها ترتيبًا، وما يتعين التعجيل به منها وما يقبل الإرجاء لأمد قصير أو طويل. ولكن هل هذه التضاريس كلها اختيارات وتحديدات آدمية مصدرها فقط ما يقدره الشخص ويريده ويحدده؟! أم أن تضاريس هذه الواجبات ليست عملاً بشريًا صرفًا، وأن منها ما ينبع عن مصادر علوية أو دينية، أو عن اعتبارات ودواع اجتماعية؟! فالذي لا خلاف عليه أن قدرة البشر علي تغيير خريطة الحقوق ومن ثم الواجبات ليست قدرة مطلقة، بل لها حد إلهي بل واجتماعي يجب أن تقف عنده، يصدق هذا علي الجماعات مثلما يصدق علي الأفراد.. بيد أن هذا ليس موضع اتفاق بين جميع الناس أو في كل الأماكن أو الأزمان والعصور.. ولكن الذي لا خلاف عليه أيضا أن اجتهاد أهل كل زمان أو عصر، أو فئة أو مكان، واختلافهم المفترض والحاصل في التفاصيل، لا ينفي أن هذا الحد بمعناه العام قائم وموجود بصورة أو بأخري في كل زمان ومكان وظرف كحقيقة كلية مستمرة بها تبقي حياة البشر بصورة عامة موضوعية داخل إطار من العدل والخير والحق في تيار الزمن الذي هو في حركة وصيرورة دائمة. أوروبا والفكر المغاير وهذا المبدأ لم يعد له قبول بل رفضته أوروبا فكريًّا في تحولها التدريجي من منتصف القرن التاسع عشر إلي العلمانية أو اللا دينية والإنكار المتطرف للدين. علي أن الملاحظ أن خفوت سلطات الدين في أوروبا بعد أن ساد فيها في العصر الوسيط بغير منازع ، وقد تزامن ذلك مع ازدياد الثراء الذي أدت إليه قفزات التجارة الخارجية بعد الحرب الصليبية الأولي، واتساع نفوذ المدن البحرية الإيطالية، ونشاط أساطيلها وانتشار مراكز المال والأعمال التي أطلقت مع هذه التغيرات أشواق الناس للمكاسب والأموال، والترف والكماليات، وطفق ذلك يزداد مع الكشوف الجغرافية والانتشار إلي ثروات العالم الجديد. ما تزامن مع المتغيرات تزامن مع هذه المتغيرات، شيوع الترف والتنعم، والاندفاع في الإقبال علي الامتلاك والاقتناء والتوسع في نشدان الثروات، وفي امتلاك السلطة والجاه، والاستمتاع مع ذلك بالملذّات بكافة أنواعها، وعشق المغامرات، والجرأة علي كل شيء حتي انطبع في ذهن ذوي اليسار أي الثروة أنهم يمتلكون كل شيء، ويستغنون بما يمتلكونه عن كل شيء، وفشا الإعجاب بالذات، وبات السؤال المطروح بشدة: هل هناك تلازم بين الغني والثراء والثروة وبين ضعف التدين؟ بعبارة أخري هل تتداخل الثروة في تضاريس خريطة الحقوق والواجبات؟ هل من أثر للثروة؟ لا جدال أن نوعية وجداول أولويّات الحقوق والواجبات تتأثر بالضرورة بأوضاع الغني واليسار، والفقر والحاجة.. فما يتطلع إليه الغني ويرتاح إليه ويطلبه ويسعي إليه، يختلف بالضرورة نوعًا وكيفًا وكمَّا عمّا يتمنّاه الفقير والمحتاج ويرجوه. فارق كبير بين الحاجة وبين الاستغناء، والحاجة والاستغناء كلاهما نسبي، في الكَم وفي النوع وفي الكيف. وربما هذا هو الذي أثار ويثير شبهة أثر الاستغناء الناجم عن الغني في صفحة وجدان أصحاب الثروات، يكرس هذه الشبهة ما قد يجلبه الثراء من ثقة قد تصل إلي حد الغرور في قدرة الإمكانيات علي تجاوز كل شيء، وعلي تحقيق كل ما يصبو إليه صاحب الثروة. قد يكون هذا واردًا في الماديات التي يكون الحصول عليها رهينًا بما في قبضة الأغنياء من أموال، وقد تتسع صورة هذه الماديات ونوالها حتي تكاد تستغرق معظم صفحة وزوايا الصورة، ومع ذلك يعرف الأغنياء قبل الفقراء أن هناك من المطالب والأماني والحاجات ما يستعصي الحصول عليه بالأموال فقط مهما كثرت واتسعت استعمالاتها. المواهب والملكات لا تشتري المواهب والملكات ليست ولا يمكن أن تكون حصاد ثروة، وكذلك الصحة والأمان النفسي، وعقلاء الأغنياء يدركون هذه الحقيقة حتي وهم يسعون للخروج من ربقتها، ولذلك لا يمكن التسليم بمقالة مطلقة إن الثروة والتدين نقيضان لا يجتمعان. فهناك أغنياء لم يلفتهم ثراؤهم عن الإيمان بالله وتصاريف ما يقدره، ولا عن خريطة واجباتهم التي يسخِّرون فيها ثرواتهم لإعطاء الجانب الإنساني حقه من الرعاية والكفالة، وأمثال هؤلاء احتفظوا لذلك بالتوازن في تضاريس خريطة حقوقهم وواجباتهم. بينما هناك فقر قد يورث الكفر أحيانًا، حتي قيل في بعض الأمثال الدارجة إن الجوع كافر، لأنه مع الحاجة الشديدة، ووطأه الفقر والجوع، ووقعه المر الموجع الممض يذهب هذا وذاك بأمان النفس أشتاتا، ويورثها شططًا قد يؤدي بها إلي الكفر أو ما يشبه الكفر، ويؤثر بالضرورة علي تضاريس خريطة الحقوق والواجبات! حدود الصناعة البشرية ربما يبدو من ذلك حقيقة أن تضاريس هذه الخريطة ليست في كل الأحوال صناعة بشرية. نعم تتدخل فيها إرادة وسلوك وأفعال وأعمال وخطط ومساعي البشر، ولكن لها حدودًا لا يملكها البشر ومن المحال أن يمتلكوها. وهذه الحدود اللا بشرية هي التي تطامن من غلواء ملاك الثروة والممسكين بمقاليد السلطة والقوة، وتدعو العقلاء إلي التخفيف من غرور ما يمتلكونه أو يقدرون أو يتصورون أنهم يقدرون عليه، وتكفل لدي المجتمعات السوية جسورًا واجبة تخفف من ويلات الفقر وتوازن الحياة لتستقيم بلا فتن تعصف بالأخضر واليابس! ليس من اليسير، مع سطوة وارتفاع شأن المال، تجاهل تأثيره علي جدول القيم، فالمال صار علي رأس القيم فعلاً وواقعاً، وأخذ المال يحتل معظم تفكير وأنشطة الناس، ولوحظ تأثيره علي هبوط الخامة البشرية، وهذه الخامة الإنسانية هي قبلة الأديان، لذلك لم يتوقف الصراع قط بين الأديان وبين المال علي نفوس الناس وأرواحهم، وأطل تساؤل يقول: هل يمكن أن تصبح الأشياء المادية أغلي وأثمن من الآدمي ذاته في مجتمعات الثروة ؟ إن اتصال الأديان بالمال اتصال انتفاع واستخدام أمر حتمي تفرضه ضرورات كثيرة، رأينا هذا ونراه في مظاهر الفخامة التي تسللت إلي دور العبادة ذاتها، وحتي صار بذل المال من أجل القربات الدينية عادة تلازم التعبير عن التدين، بينما لم يعد متاحاً رد أهل الأديان إلي بساطة الحياة الأولي التي كان عليها الأوائل. وها هنا أكبر التحديات التي تواجه هذا العصر الذي صار نهباً لانقسام لا يلتفت إلي أن واحة الرب تبارك وتعالي لا تفرق بين غني وفقير، أو بين قصر وكوخ، وأن الجميع آتيه يوم القيامة فردًا! يقول تعالي في كتابه العزيز: »إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا *لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا* وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا» (مريم 93 95 ).