حاول الضابط أن يطيل الوقت في كلام مكرر ولامعني له، كأن يصرّ مثلا علي أن يذكر إسم الواحد كاملا من واقع الكشوف أمامه، أو يسوق أمامنا معلومات تؤكد ذكاء الجهاز الذي ينتمي له.. بدا وكأن لاشئ يعنيه إلا إطالة الوقت، ويمد يده بين الحين والآخر ليعدل من وضع واحد من الأعلام الأمريكية التي يزيّن بها مكتبه.. الحقيقة أنني لم أنتبه للجانب الكوميدي الفارس في ذلك الموقف. كنت أغلي من الغضب وأحاول التماسك وأتشاغل بالنظر إلي السقف أو الجدار لأقتل الوقت، حتي أشار في النهاية إلي المخبرين ليصحبونا إلي الخارج. بالطبع تلك لحظة خاصة جدا. لحظة الخروج والانفراد بنفسك واتخاذ قرار تقوم بتنفيذه علي الفور، والسير في الشارع الواسع والتوقف لإشعال سيجارة، ثم استئناف السير والنظر إلي الأشجار علي جانبي الشارع.. تلك كلها مباهج سوف تشعر بها دفعة واحدة، ويغزوك شعور ما يشبه السعادة. واصلت استمتاعي بتلك اللحظة، وتوجهت إلي موقف أتوبيس رقم 8 أمام المجمع، وركبت إلي بيت أمي. كانت المشكلة أن عائشة ماتزال محبوسة، وأمامها ثلاثة أسابيع، قبل أن تمثل أمام المحكمة في الجلسة القادمة للنظر في أمر استمرار حبسها، وهو ماكان يعني الاستغراق مع المحامين ومتابعة تلك الأمور المعلقة التي تقتضي استخراج بعض الأوراق، وفي الوقت نفسه استخراج أوراق أخري تخصني لتقديمها إلي جهة عملي عندما أعود إلي الوادي الجديد. في الجلسة مثلت عائشة أمام القاضي الذي أمر بالإفراج عنها وعن كل زميلاتها، وأمضينا أياما قليلة جدا، ثم حزمنا حقائبنا عائدين إلي الوادي الجديد، بعد أن تسلمت خطابا من نيابة أمن الدولة بالإفراج عنها علي ذمة محضر بسبب الشغب لم يتم التصرف فيه بعد، وليس بسبب قضية، وهو الأمر نفسه الذي جري معي. كنا نتوقع عند عودتنا أن نتعرض من جانب جيراننا وأصدقائنا في الوادي الجديد لمعاملة سيئة، ربما وصلت إلي حد إلقاء الطوب علينا، فالتهمة التي ألقي القبض علينا بسببها وغبنا كل تلك الشهور من جرائها هي الشيوعية ، وتوقعنا أيضا أن تقوم أجهزة الأمن بواجبها في إطلاق الأكاذيب حولنا، والحقيقة أن القلق قد استبد بنا. واتفقنا معا اتفاقا غير معلن لأي منا أن نمتنع عن تبادل الكلام حول مانتوقعه عند عودتنا. المثير للدهشة أن كل من قابلناه ، وعلي الأخص من جيراننا في السكن، أو من زملائنا في العمل، أو من أصدقئنا الذن كانوا يترددون علينا أونتردد نحن عليهم، أن سبب القبض علينا لم يكن يعنيهم ولم يجدوه مقنعا لما جري لنا. كان مايعنيهم فقط أننا عدنا سالمين. أخذونا بالأحضان كأننا كنا في سفر طال قليلا. لم يكن ذلك مدهشا فقط، بل كان يعني أنهم أحبونا وأن عشرتنا معهم ومعاملتنا كانت هي الفيصل والأكثر حسما. هناك بالطبع قليل جدا ممن كانوا أصدقاءنا امتنعوا عن التردد علينا، بعد أن قاموا بواجبهم وجاءوا للسلام علينا، كما أن وكيل مديرية التربية والتعليم التي أعمل بها طلب مني أن أمتنع عن المرور علي المدارس للقيام بالتوجيه، ولفت نظري إلي أنني مازلت تحت تصرف المحضر إياه ولم يتم التصرف فيه بعد!، بينما استمرت عائشة في عملها كأمينة مكتبة دون أن يطلب منها الابتعاد. تلك الفترة التي أعقبت عودتنا كانت هي الأجمل والأكثر إمتاعا، بل وبلغت بنا الطمأنينة أن نقرر أنه حان وقت إنجاب طفلنا الأول. في الأسبوع القادم أستكمل إذا امتد الأجل