سرعان ما ألفنا حياتنا الجديدة في البيت نصف المسقوف، واستطعنا أن نحسّن من شروطنا تدريجا، فاشترينا ما يمكنك بكثير من التجاوز أن تقول إنه سجادة في الصالة وملاءة للسرير وكيس مخدة وأشياء من هذا النوع. لم نواجه عقارب، كما كان يُشاع إلا مرات قليلة وتعلمنا التعامل معها، ثم انقطعت تماما. أصبح لنا أصدقاء قليلون يترددون علينا، وربما صديقين أو أكثر كنا نتردد عليهم في بيوتهم. خرجنا أيضا في رحلات لأماكن قريبة، وترددنا علي قصر الثقافة هناك ثم فتر حماسنا، أما جيراننا القريبين من أهل البلد، فقد تولت عائشة التعامل معهم طبقا للعادات السائدة، كما أن بعض البنات كنا تلميذات لديها في المدرسة التي تعمل فيها أمينة مكتبة، ثم اطمأنت جاراتنا تماما لعائشة عندما جلست معهن أمام الفُرن وهن يخبزن الرقاق عشية عيد الأضحي، وأخبرنها أنهن كن مستريبات وغير مستريحات لها عندما جلست أمام الفُرن بسبب أظافر يديها الملونة، وبعد موقعة الفرن أصبح لها صديقات قريبات خصوصا من جاراتنا، وبدأنا نعيش حياة طبيعية بالفعل. أكثر من هذا ، اشترينا كتاكيت ، وكنا نشعر بالسعادة البالغة عندما نخرجهم من الكرتونة بعد عودتنا من العمل وتركها تمرح في الشمس، وتجرأنا أكثر واشترينا أرنبين، وعندما اشترينا حماما تولت جارتنا أم ليلي ذبحها لنا. بالطبع كانت تنتابني حالات من اليأس والضيق وفقدان الأمل، وكانت تطول أحيانا، فقد نجحوا في إبعادي وإجباري علي التخلي عن المنظمة وعن رفاقي، وها أنا مضطر للإقامة في الصحراء حيث لاشئ. لم يكن هناك اتصال بيني وبينهم إلا أثناء الإجازات القلية المتباعدة. ربما من شدة اليأس لم تنجح محاولاتي غير الجادة في العودة للكتابة، ثم توقفت عن تلك المحاولات، وربما كان عكوفي علي القراءة لساعات طويلة ، فاليوم طويل جدا، علي الرغم من أنني توقفت عن القراءة ليلا بسبب عدم وجود كهرباء. أستطيع القول إن مكتبات المدارس، التي تضم كتبا كلها قديمة أنقذتني وساعدتني علي التحمل. قرأت كثيرا في التاريخ الفرعوني، وأنهيتُ النجوم الزاهرة لابن تغر بردي، وأغلب مجلدات سليم حسن وبرستد وفخري، وتسليت بكتب عبد الحميد جودة السحار وباكثير، واستمتعت بسلسلة أحمد أمين فجر الإسلام وظُهره.. انزعجنا بشدة، عندما بدأت الكتاكيت التي فرحنا بها بشدة في السقوط ميتة، ولم ينج إلا ديك ودجاجتين صغيرتين، وبدأت المناوشات البسيطة بين الأرنب الباقي بعد أن ذبحت لنا أم ليلي أحدهما، ثم تحولت المناوشات إلي اشتباكات كنا حريصين علي فضها لأن الديك كان بالغ الشراسة. كان من المثير للدهشة قليلا أننا لم نكن متابعين ولم نشعر بمراقبة مثلا، وكان الجو عاديا في عملنا، بل إنهم نقلوني باعتباري أقدم أخصائي اجتماعي من المدرسة الثانوية الصناعية التي كنت أعمل بها إلي المديرية لأقوم بعمل موجه، أمرّ علي المدارس لأوجّه الإخصائيين الأحدث مني. ما جري بعد ذلك كان مذهلا .. ففي 16 يناير 1980، كنت جالسا علي مكتبي في المديرية أحتسي الشاي وأكتب بعض الأوراق الخاصة بعملي. جاء الساعي الذي يعمل مع مدير الشئون المالية والإدارية، وطلب مني الذهاب للمدير، وهو رجل لزج كنتُ أعامله باستهانة لأنه حريص علي الزهو بذكائه، بينما لم يكن إلا أقل من محدود الذكاء.. كان من الأمور العادية أن يرسل لي هذا الرجل أحد السعاة، وكان من الأمور العادية أيضا أن أهبط للطابق الأرضي حيث مكتب المدير.. ونزلتُ بالفعل،وبمجرد دخولي مكتبه، وقف رجل ضخم الجثة يرتدي بدلة كاملة. كان يجلس علي مقعد مجاور للباب وعرّفني بنفسه إنه العقيد عبد المجيد مفتش مباحث أمن الدولة.. أستكمل في الأسبوع القادم إذا امتد الأجل.. ا