د. ناهد عشري كنا نتناول الطعام أنا وأطفال العائلة ممن لم يبلغوا سن السابعة بعد في فيلا الجدة (روز) صديقة جدتي (البهية) خلال شهر رمضان المعظم من كل عام والذي كانت تحرص علي إعداده خوفا علي الصغار من طول ساعات الصيام.. وكنا نتنقل بين الفيلتين من خلال سلالم داخلية قامت الجدتان بتصميمها للتحرك بحرية بعيدا عن التطفل والرقابة، وكانت بعد أن تعد لنا الأطعمة والحلوي تذهب إلي محرابها (ركن) صغير زينته بصورة للسيد المسيح والعدرا مريم، وتنبعث منه رائحة البخور طوال اليوم، وتضع علي رأسها غطاء يشبه ما تضعه جدتي علي رأسها، وعندما طلبت يوما أن أصلي معها كما أصلي مع أمي جمعت أطفال العائلة وطلبت من أكبر الأحفاد الأولاد الصلاة جماعة، فقمت بالاعتراض فكيف لنا أن نصلي صلاة (الجمعة) يوم (الثلاثاء) فضحكت الجدة ( روز) حتي البكاء وحملتني إلي حضنها الدافئ وشرحت لي كيف أن صلاة الجماعة تصح في كل الصلوات وأن يوم الجمعة هو خير الأيام وأعظمها.. ولا أنسي يوماً عندما جاء ابنها المهاجر إلي الخارج ليصطحبها معه بعد وفاة والده وأصبحت وحيدة، سمعتها تصرخ وتستغيث بجدتي وأبي أن يمنعاه، وفي اليوم الموعود للرحيل دخل ابنها عليها في محرابها ليجدها وقد توفيت إلي رحمة الله وهي جالسة تحمل بين يديها الإنجيل وأنهار ابنها، وانهارت جدتي وساءت حالتها وفشل الأطباء في السيطرة علي السكر بعد أن رفضت الطعام والشراب، وتوفيت بعدها بفترة قصيرة.. توفيت (روز) بعد أن رفضت ترك صديقتها التي تجد عندها الوطن والمحبة، وتوفيت (البهية) بعد أن شعرت بهجرة الصدق والصحبة عن وطنها.. ومازلنا: أنا وصديقتي نسعد بأيام عودتها إلي القاهرة فتهل معها الأعياد والمناسبات السعيدة، فنذهب معا لحضور الأفراح أو إلي الكنيسة للزيارة وأشاركها صيام الجمعة الأخيرة قبل عيد (القيامة المجيد)، وتشاركني صيام أيام من شهر رمضان المعظم.. وعندما ذهبنا لمشاركة أصدقائها في وداع شهداء حادث أتوبيس المنيا الأخير لم أتعجب عندما رأيت المسلمات يقاربن عدد أمهات الشهداء يصرخن معاً، وتعلو صرخاتهن أرجاء الكنيسة، كما لم أتعجب عندما سمعت أم الشهيد تطلق (زغرودة) فهكذا زين لها الله في رحمته، وربط علي قلبها، أو ربما أراها رب العالمين ما لم نره، أو أنها قد رأت عرس شهيدها في السماء فأطلقت فرحتها.