إذا كان التصوّف في معناه العامّ ضربًا من ضروب الإدراك الوجدانيّ، والرؤية القلبية للحقّ والخَلْقِ، عبر منظومة تتلاقي فيها الأبعاض، وتأتلف المختلفات، وتتماهي المتشابهات، ويُعاد فيها إنتاج دلالات الكون بسائر مفرداته، تأويليّا، من خلال رؤية مرآوية شديدة الذاتيّة؛ فإنّ "الكتابة" الحقيقية التي ينكتب فيها صاحبُها خلال نصوصه انكتابًا شعوريا وروحيّا وفكريا بهذا الفهم، وعلي هذا النحو من الممارسة تُعَدّ ضربًا من ضروب التصوّف، وعلي هذا النحو كذلك أراني أقرأ "كبرياء الموج" (دار الهلال) لانتصار عبد المنعم، ولا أدري لماذا تُلِحّ علي ذهني تسمية أخري مغايرة للعنوان، ولكنّ المضمون هو الذي يستدعيها استدعاء قويا، وهي "مُنَاجيَات انتصار عبد المنعم" استلهامًا لكتاب "مُنَاجيَات الحلَّاج" لعلي بن أنجب الساعي الذي جمع فيه أطرافا شتي من أخبار الحلاج ومناجياته ونصوصه الفصوص الكاشفة الملهَمة، ربما لتماهي المحتوي مع التسمية في مخيِّلتي طول الوقت، وأنا أقرأ كبرياء موج انتصار ومناجياتها، وربما لسيادة نبرة النجوي وغلبتها ونزوع الكاتبة فيها منزعًا إفضائيّا ابتهاليّا تذكُّرِيّا استأثر بفضاءات الرواية مهيمنا علي سائر عناصر التشكيل الأخري خلالها، وهو ما أحالها ظِلًّا لها، أو ما جعل منها في الغالب محرابًا لهذه النجاوي والإفضاءات الروحية والاستدعاءات الوجدانية التي تتدفق في انثيال شعري حميم، وهو ما يجعلنا نتجاوز كثيرا إشكالية التجنيس النوعيّ للشكل الفني لهذا النصّ؛ فهذا شَرَكٌ مخاتل ينبغي أن يتجاوزه القارئ في إيمان وتسليم ويقينية، معترفا بأنه أمام نصٍّ يستعصي بطبيعته علي هذا التجنيس أو القولبة المدرسية البليدة، مُقرًّا في الوقت ذاته بأنه أمام نص من نصوص النجاوي الصوفية بامتياز، تلك التي تستهدف في المقام الأول تقديم سيرة روحية ووجدانية تكون السيرة الذاتية هامشا لها، وحاشيةً عليها، شارحةً، مُحَلّلَةً، متواشجةً معها، متفرّعةً عنها، متداخلةً بها في الوقت ذاته، أو قل: تكون فيها السيرة الذاتية مجرد عتبة خارجية تؤطر بوح العارفة، الساردة، المناجية، الوالهة، الحاكية الشاعرة، فتجعل منه متكآت ومنطلقات لهذا البوح الروحي الحميم. والكاتبة في ذلك كله توظّف لغة شعرية شديدة الكثافة والشفافية والعُذُوبة العُذْريّة في آن؛ فهي تسترفد المصطلح الصوفيّ وأجواءه وعوالمه ورموزه وكبار شخوصه ومُلْهميه (بفتح الهاء وكسرها) في صفاء عبارة، وجلاء إشارة، علي نحو مطبوع تسعفه قريحة حاضرة، ووجدان معمور بهذه التجربة الروحية المتوهّجة بمكابداتها، ومجاهداتها، ورؤاها، ومكاشفاتها، وموروثاتها، وهذه اللغة ليس من السهل علي المقلّد المتكلِّف استدعاؤها أو ادّعاؤها، وإنما هي لغة تُكتسب بالحلول فيها، والاتحاد معها؛ فهي لغة يمليها الحالُ، والمقام، تمليها التجربة الذاتية، والذخيرة الروحية، التي تشكلت بها ومعها شخصية الكاتبة عبر أطوار حياتها وخبراتها الذاتية المختلفة، وهذا الملمح من الأصالة بمكان بحيث يظهر للقارئ من أول لحظة تؤكّد فيها الكاتبة هذا الحضور الصوفي، وهذا الإدراك الحلوليّ الذوقي الشهوديِّ للذات في الآخر، أو قل: للآخر عبر الذات، وللذات في مجالي الآخر، تري ذلك منذ إشارة البدء بكل ما تحتمله في طياتها من طاقة عرفانية، وإدراك توحّدي تتقاطع فيه مرايا الذات مع الكون والوجود والآخر بعدا وقربا، حضورا وغيابا، خفاءً وتجليًّا "يا أنا، هذا البحرُ عالمُك، وهذه السماءُ، حيثُ تذهبين، روحُكِ، ويا أنتَ حيثُ أنا فيك.." ويتأكّد لديك هذا الحضور عبر طائفة من المصطلحات الصوفية التي توردها الكاتبة وتوظّفها في وعي تام وإدراك لكونها وسيطاً تعبيرياً رمزياً عرفانياً في لغة القوم؛ فالمُرْسِيُّ "صاحب العباءة الخضراء" بما تحتمله من دلالات العهد والميثاق بين الشيخ والمريد، والإذن بالولوج، بعد التخلية والتنقية، وبداية السلوك، بعد طول المجاهدة والمعاناة، إلي مدارج طريق العارفين ومعارجهم الروحية، يمنحها "البساط الأخضر" علي "طريقة السالكين" و "العباءة الخضراء"، وما هذه العباءة أو "الخِرْقَة" في لغة القوم سوي هذه البيعة الروحية التي تنعقد بين الشيخ والمريد، والتي تعني فيما تعني أنّ مَنْ تُخْلَعُ عليه، قد صار منّا، ونحنُ منه، منضوياً تحت عباءتِنا: طريقتِنا، خِرْقَتِنَا مَذْهَبِنَا، وكذلك يمنحها "البُراق الأخضر" رفيق رحلتها في إسرائها الروحي، ومعراجها الوجديّ، مع ملاحظة ما في وصف البِسَاط والبُراقِ بالخُضرة في كُلّ من معاني الحياة المتجددة، والطهارة، والبكارة الأولي، والبُشريات اليانعة، وهو لونٌ غالبٌ علي أحوال أهل النعيم والفتوحات في روضات الجنّات، نري هذه الدلالات في كثير من الإشارات النصيّة الواردة في القرآن الكريم من مثل قوله تعالي:"مُتَّكِئِينَ عَلَي رَفْرَفٍ خُضْرٍ" أو قوله: "عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ"، وإن الكاتبة لتصنع ذلك في قصديّة إبداعيّة ووعي تشكيليّ حتي تستحيلَ مفرداتُ الوجود في منظورها الروحي، وعلي يَراعتها المصوِّرة، إسراءاتٍ وعروجاتٍ تتوازي وتتقاطع مع كل مدركاتها الذاتية، فما إسراؤها سوي لذاتها، وبذاتها: "أسرَي بي ذات موج؛ فكان لي مع كل نورسٍ عروجٌ" وكذلك تُطوّف انتصار في هذه الفضاءات الروحية مُفْضِيةً، مناجية مبتهلةً، شاعرة ساردة، موحيةً مُوحًي إليها، عبر هذه المدارج الصوفية التي تعيد فيها استكناه ذاتها، وقراءتها من جديد علي هذا النحو الابتهاليّ الذي يتماوج تحليقاً وتبتيلاً، كأنه تراتيل الذاكرين الهائمين في حضرة وجديّة عليّة.