تفرض عليك أعمال الفنان المصري خالد ذكي حالة من السكون منبعه الكشف الحاضر بقوة في المنحوتات التي يرتحل الفنان من خلالها إلي الروح وينتقل فيها من الماضي للحاضر ومن الأرض للسماء، وإذا كان الفنان اشتهر بتنويعاته الفريدة علي تماثيل الدراويش الصوفية التي تجمع ذلك النقيض بين الكتلة ورسوخها وفلسفة التحرر من ثقل الجسد للوصول للسماء، إلا أنها ليست تجربته الوحيدة في الغوص في عوالم الروح وربطها بالشكل النحتي إذ أنه حاور الزمن والموت الحامل للحياة والنهوض من العثرة ولذلك حكاية امتدت سنوات طويلة. ربما كان معرض »العودة» الذي استضافه جاليري أوبونتو منذ فترة غير بعيدة فرصة طيبة للتعرف علي محطات مهمة في تجربة الفنان، إذ تضمن العرض مجموعة من الأعمال المختارة التي عكست الكثير من تجاربه الفنية في النحت والرسم التي أنتجها الفنان في الفترة من عام 1996 إلي 2016، ومنها مجموعة »الزمن» و»اللاجئين» والدراويش وكذلك التوابيت فما بين تلك العودة و»وقت العودة» وهو معرضه الفردي السابق في مصر ما يقرب من 16 عاما عكست التطور في فلسفته التشكيلية. لذا جاء تأكيدي علي كونه مصريا عن قصد فاللفظ يحمل أبعد من جنسية يكتسبها بالميلاد، إذ أنها تحمل ذلك المزيج بين الاقتراب والابتعاد كما هو الحال في فلسفة الصوفي، إذ أنه رغم قضاءه لسنوات طويلة خارج مصر والتي تزوج فيها وتعلم فنون النحت في إيطاليا كان دائما مشدودا للعودة.. مغتربا حتي يعودا فخرجت أعماله عن الزمن رغبة منه في مقاومته حتي لا يلتهمه ولا يلتهم سنوات العمر التي يقضها بعيدا عن الوطن، إذ يقول الفنان في تقديمه لمعرضه في فبراير عام 2002 كان معرضي الشخصي الأول في مصر بعد غيبة طويلة قضيتها في إيطاليا وكان بعنوان “وقت العودة» وكان لعنوانه علاقة بتلك الرغبة العارمة التي تعتريني طوال عشرة أعوام قضيتها في الغربة للعودة إلي وطني. إضافة لذلك فإن الفنان عاشق للحضارة المصرية القديمة، ويظهر شغفه بالفنون المصرية القديمة وفنون البحر المتوسط وكذلك اهتمامه بيوم البعث، بشكل ملموس في تقنيات وتصميمات وألوان تماثيله وكتلها وأعماله الفنية علي تنوعها واختلافها. وتجد تأثير الحضارة المصرية في كثير من أعماله، منها علي سبيل المثال مجموعة التوابيت، إذ يعتبر التابوت في فلسفة المصري القديم هو حامل الحياة، ومن ثم هو وسيلة انتقال الإنسان من حياة مؤقتة إلي حياة سرمدية، وفي ذلك دلالات عدة من بينها الحياة بعد الموت والقيامة والبعث، وينتقل الفنان في تلك المجموعة من السكون التام إلي بداية الخروج والانصات إلي السماء،ثم هناك كذلك تلك المنحوتة التي تحمل عنوان »الخروج من السمكة».. وفيها التحول الناتج عن الخروج من كتلة إلي كتلة أخري.. وربما فرضت تلك المجموعة تحديا خاصا علي الفنان حيث يقول: ربما يخشي النحات من فكرة التسطيح حيث تزداد نسبة نجاح العمل في الوضع الأفقي وليس الرأسي. إلا أن تلك المجموعة تؤكد علي حنكة ذكي في التعامل مع الكتلة أي ما كانت. كذلك فإن مجموعة الدراويش أيضا تبدأ من فكر المصري القديم، فالبداية كما يذكر الفنان كانت من تاج الجنوب، مضيفا: لطالما قرأت عن صياغة المصري القديم للتاج، وحين لفت نظري شكل الصوفيين في رقص السماء المولوية، وجدت خيطا في مخيلتي بين تاج الجنوب والراقص الصوفي، أما عن الصوفية ذاتها، فهناك مناهج فلسفية كثيرة لدي المصري القديم عن العلاقة بين الإنسان وربه وخصوصيتها. كما تبدو الفتيات في مجموعة اللاجئين مستوحاة من فتيات تل العمارنة برشاقتهم. وهنا يقول الفنان إن ذلك التأثر بالحضارة المصرية القديمة جاء تلقائيا نابعا عن امتصاص لمفردات تلك الحضارة دون ادعاء فج، فهو يخرج لأنه موجود في الأعماق، ويضيف الفنان : كان المصري القديم سابق عصره، فالتلخيص في النحت مثلا تخطي كل الحقب التالية، ومن ثم أجد أنني لم أفعل شيئا جديدا، وليس ثمة نحات بإمكانه ذلك، ولكنها إضافة شخصية.. وهي ذلك الجزء الصغير جدا الذي تضيفه بصفتك أنك موجود في هذه اللحظة تحاول العمل بصدق. وربما كان أحد العوامل التي أضافت لمعرضه الأخير »العودة» حالة الحوار بين المنحوتات، فحالة التكرار بين الكتل المتشابهة والمختلفة أيضا في الوقت ذاتها أحدثت نوع من الحراك التي أثارت عاصفة من الأفكار والمشاعر في وجدان المتلقي. وينطلق الفنان في أعماله في الغالب من أفكاره المتعلقة بحكمة الميلاد والموت والبعث والطاقة الكامنة في الأشياء وكذلك اللانهائية من خلال براعة منقطعة النظر في الشكل الذي يميل إلي التلخيص وينحي كثيرا منحي التجريدية، ففي تجربته الأخيرة »القيامة» التي لم يعرضها في ذلك المعرض قدم الفنان شكل مكون من ست قطع يمكن تفكيكهم وتركيبهم بعدد لا نهائي من الأوضاع،إن ترتيب القطع ذاتها من الممكن أن ينتج شكل في منتهي القوة أو قطع منهزمة ومنسحبة. وقد اختار الفنان أن يقدم مجموعة من الاسكتشات واللوحات مع منحوتاته كجزء لا يتجزأ من تجربته الفنية، جدير بالذكر أن تلك المرحلة التي وصل إليها الفنان خالد ذكي هي مزيج من خبرات وتجارب متنوعة إذ بدأ حياته من متحف الخناني للفنون بالجيزة حيث تتلمذ علي يد د.عايدة عبد الكريم والفنان زكريا الخناني، وقد أتقن استخدامه للحجر والبرونز في ورش العمل المتعددة في إيطاليا، كما حصل علي دبلوم درسات عليا في الترميم. وقد فاز بالمسابقة الوطنية في تصميم وتنفيذ نحت ميداني ضخم في ميدان الجلاء بالقاهرة عام، 2000وفاز أيضا بجائزة الفنان الدولي من تايبيه – تايوان عام 2015، كما مثل مصر في بينالي فينسيا عام 2013، وهي المرة الأولي التي يظهر فيها الدرويش ضمن ما قدمه، لتتطور الفكرة بعد ذلك وتظهر في تجليات متعددة.