الكلام يدور هنا حول الوادي الجديد عام 1978، وليس الوادي الجديد الآن بعد أربعين عاما ولاأعرف ما آل إليه، إلا أن ما لاحظته أثناء زيارة خاطفة عام 2009 هو أن التمدد العشوائي الذي ضرب كل مصر، وصل إلي الوادي الجديد أيضا.. فالزحام فظيع وكذلك الضجيج والأصوات العالية والسيارات ودكاكين الموبايلات وتصليحها تملأ الدنيا. و علمت أن الإرسال التليفويوني كان قد وصل قبل عدة سنوات. أتيح لي أن أتجول بعض الوقت، وإلي جانب زيارتي للمحاريق التي كانت تضم فيما مضي معسكر اعتقال الشيوعيين الشهير خلال الفترة من عام 1959 وحتي 1964، زرتُ أيضا عددا من الواحات الأخري. بدأت بزيارة المحاريق وقد تحولت إلي مزرعة للبط وضاعت معالمها التي كنت قد قرأت عنها، مثل المسرح الشهير الذي بناه الشيوعيون علي الطراز اليوناني ذي المدرجات ومثّلوا عليه مسرحيات زميلهم الفريد فرج وغيره، أما الأرض الزراعية التي كانت صحراء قاسية فقد استصلحوها وزرعوها وكانوا يأكلون من ثمارها، وبقيت بطبيعة الحال ويزرعها أهل البلد. وعلي مشارف واحة الخارجة يقع واحد من أهم المعابد الفرعونية وهو معبد هيبيس إلا أنه كان متداعيا وعلي وشك الانهيار آنذاك بفعل الإهمال ولا أعرف ماذا جري له، لكن قيل لي إن هناك جبانات فرعونية تضم مومياءات لكنني لم أرها، ومارأيته فعلا هو أطلال كنائس قديمة محفورة تقريبا داخل كهوف الصحراء وماتزال محتفظة بصور القديسين المرسومة علي الجدران المنهارة. يضم الوادي الجديد عددا آخر من الواحات التي ألقيت عليها نظرات خاطفة مثل واحة باريس والقصر ، والأخيرة واحة مهيبة تبدو وكأنها خارجة من العصور الوسطي بسبب مبانيها القليلة ذات الطراز الأيوبي، أما أبعد الواحات وهي الداخلة فتتميز بعدد من الآبار الساخنة المجاورة للآبار الباردة. لم أصادف في حياتي طيبة ونقاء وصفاء وحرص علي تجنب المشاكل خصوصا مع الحكومة ومن يمثلها مثلما صادفت في أهل الواحات الأصليين. بالطبع أتحدث عن عام 1978 قبل وصول الإرسال التليفزيوني. وليست مصادفة التدني الشديد لمعدلات الجريمة في الواحات آنذاك، وليست مصادفة أيضا السكينة والسلام اللذين يشعر بهما الواحد ، علي الرغم من أنك لن تجد مطعما تتناول فيه وجبتك باستثناء مطعم وحيد يمكنك أن تتمكن من ابتلاع طعامه في نادي تعمير الصحاري البعيد، وعليك أن تبحث عن سيارة تقلك إلي هناك. لم تكن هناك مواصلات أصلا داخل مدينة الخارجة، وكل ماعليك أن تفعله أن تشير لأي سيارة حكومية ، وتأكد أنها ستقف لك بكل سهوله، وسوف تصطحبك إلي أقرب مكان فيما لو لم يكن طريقها هو طريقك نفسه. أما بقية المطاعم، وهي قليلة جدا علي أي حال، فهي لاتقدم ماتستطيع أن تبتلعه! فوجئت برخص أسعار السلع المذهل حقا، خصوصا السلع الغذائية مثل البيض والبط والبلح بأنواعه طبعا، لكنك لن تجد خضراوات أو فواكه إلا بصعوبة شديدة، كما أنها تكون في حالة يرثي لها. ولما كان الأستاذ عبد الرازق زميلي في استراحة المعلمين يمتلك حلة وطاسة ووابور جاز، فقد اشتركنا معا في إعداد الوجبة الوحيدة التي لاتتغير وهي البطاطس المسلوقة والمهروسة في البصل والبيض، والحقيقة أنها كانت شهية جدا وتعلمتها منه وأدمنتها. أتيح لي أيضا وقتا ممتدا في الصباح وطوال بعد الظهر وحتي غروب الشمس للقراءة عدة ساعات في اليوم، بينما كان التيار الكهربائي دائم الانقطاع. كانت هناك كنوز تنتظرني في مكتبات المدارس القديمة من مجلدات سليم حسن وغيرها من كتب الحضارة المصرية القديمة المترجمة، وكنوز أخري من عيون الكتب التي تتناول تاريخ مصر في العصور الوسطي تحديدا وهو ما أهواه وأعشقه. سأستكمل في الأسبوع المقبل إذا امتد الأجل..