المتحف يحترق اندفعت كل منهما لأعلي بفعل قوة النيران وأخذت تستغيث، تبين أنهما يسكنان بقايا أجسامهما أو حتي بعض متعلقاتهما في هذا المكان، لتلتقي صاحبة التابوت المصري القديم التي يقال أنها مغنية آمون مع الرومانية الهاربة من موميائها التي يعتقد أنها تنتمي لسلالة ملكية لذا يسمونها »أميرة الشمس» رغم أن الفارق بين زمنيهما يزيد عن الستة قرون، وكلاهن تصرخ، فتساءلت إحداهما عما جاء بها لهذا المكان واقتلعها من جذورها، وأعقبتها الثانية بأسئلة أخري عمن أشعل هذا الحريق وكيف ولماذا، ثم ما لبثنا أن اصطدمتا بغيرهما من البشر وكائنات أخري ليتعاظم صوت الصراخ الذي أدهش كل من كان يقف خارج المبني وجعل بعضهم يتوقف عن البكاء ويحملق. يبدو أن حريق »المتحف الوطني» البرازيلي بريو دي جانيرو منذ أيام لم يكن مجرد حادثة، ولكنه بركان زاد غليانه لتخرج حممه وتكشف عن جرائم ضد الحضارة والإنسانية، فرغم أن موقع »فوربس» أشار إلي أن هناك ما يزيد عن ألفي متحف تم تدميرها علي مدي التاريخ، ولكنه ذكر أيضا أن ثلثها حدث خلال المئة عام الأخيرة، وأن أغلبها لأسباب بشرية، وأن المنحني البياني يبين بوضوح أن تدمير المتاحف في تزايد بمرور الزمن رغم التقدم التقني والتكنولوجي الهائل، والسنوات العشر الأخيرة تشهد بذلك، وهو ما يضعنا أمام علامة استفهام كبيرة للغاية. في جنح الليل؛ تصاعدت ألسنة اللهب من المتحف، وخلال دقائق توجهت سيارات الإطفاء التي جاءت من كل حدب وصوب لتحتوي الحريق، ولكنها وجدت صنابير المياه معطلة ومثلها المباني القريبة منه، فاضطروا إلي اللجوء لمياه البحيرة التي تبعد نحو عدة كيلو مترات لضخ أو قل لنقل المياه منها، كما اكتشفوا أن منشأ الحريق يصعب الوصول إليه، ولهذا كانت سرعة امتداد النيران والتهامها لمقدرات المتحف أكبر كثيرا من إمكانية إطفائها، ولم يشفع هرولة الجميع للمساعدة، لا فرق بين مدير المتحف وأصغر عامل به، حتي العجوز الذي أصيب وتم إسعافه، لم يعبأ بإصاباته وعاد ليحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه وسط البكاء والعويل دون جدوي، يأتي هذا بعد أيام قليلة من مرور 200 عام علي تأسيس المتحف مرور الكرام. يبدو المتحف متماسك من الخارج، ولكن النظر إليه من منظور رأسي يظهر قدر الانهيار الذي أصاب هذا القصر »قصر ساو كريستوفاو» مقر إقامة العائلة المالكة في البرتغال بعد فرارها إلي البرازيل عقب غزو نابليون وجيشه للبلاد، كما أعلن به عن استقلال البرازيل عام 1822 وبعد أربع سنوات فقط من إتمام بنائه في عهد الملك »دوم جواو السادس» وافتتاحه في 6 أغسطس عام 1818 تحت اسم »المتحف الملكي»، كما عقدت بالمتحف الجمعية التأسيسية الأولي للجمهورية البرازيلية عام 1890. رغم الأحوال الاقتصادية الصعبة التي مرت بالمتحف طوال تاريخه، ولكنه كان في تطور مستمر بفضل من تعاقبوا علي إدارته، واهتمام الباحثين والأكاديميين به وكذلك هواة جمع القطع التاريخية المختلفة والذين اختاروا المتحف لإهدائها له، ليصبح أقدم مؤسسة علمية في البرازيل، وكذا أكبر متاحف التاريخ الطبيعي في الأمريكتين يضم ما يزيد عن 20 مليون قطعة في عدة أقسام منها علم الإنسان حيث تجري الدراسات علي البقايا البشرية. وكذلك قسم الأجناس، والقسم الجيولوجي الذي يضم نحو 70 ألف قطعة بينها صخور بعضها يعد الأضخم، ومعادن نادرة يصعب التوصل لمثلها، وقسم الحفريات، وقسم الآثار الذي يحوي نحو 100 ألف قطعة منها 700 من مصر القديمة، وأقسام للحيوانات والنباتات بها أو كان بها مجموعة ضخمة من العينات، الكثير منها منقرض. لكل قطعة أو مجموعة قصة تستحق أن تروي، وأيضا الاثار المصرية التي أبحر بجزء كبير منها تاجر مارسيليا الشهير »نيكولاس فينجو» والتي حصل عليها من المستكشف الإيطالي »جيوفاني بلزوني» عام 1826، والذي كان ينقب في طيبة (الاقصر حاليا)، ومن القطع الثمينة واحدة من مجموعة التوابيت للمغنية »شا آمون» التي عاشت عام 800 ق م، والذي قدمته مصر كهدية للامبراطور »بطرس الأول» عند زيارته لها عام 1876، وهناك أيضا عدد من المومياوات انضم إليها، بعضها بالسرقة والبعض الآخر كهدايا ومنها مومياء رومانية لأنثي تدعي »أميرة الشمس». وفقا للتقارير وبتقدير أولي، فإن 90% أو أكثر من مقتنيات المتحف تم تدميرها، من بينها مجموعة المصريات وكذلك بقية الأقسام، وأهمها أقدم بقايا بشرية في البرازيل لأنثي أطلق عليها اسم »لوزيا» في العشرينات من عمرها كانت تعيش قبل نحو 13 ألف عام، والتي عثر عليها عام 1975 في كهف بولاية شمال ريو دي جانيرو، وهيكل عظمي لديناصور نباتي عملاق عمره نحو 80 مليون عام يدعي »ماكساكاليسوارس» طوله 13 متر، والذي عثر عليه في »ميناس جيرايس» أيضا عام 1998، وشاهده نحو مليون شخص. وهناك أيضا 1800 قطعة أثرية من الحضارات الأمريكية الهندية السابقة لكولومبوس والتي تأكد تدميرها تماما وكذلك مجموعة علم الحشرات ومجموعة الرخويات، والمكتبة العلمية التي كانت تضم نصف مليون مجلد بينها 2400 نادرة ولا يوجد منها نسخ أخري، وتسجيلات لمحادثات وأغاني وطقوس من عشرات القبائل الأصلية المسجلة منذ ستينات القرن الماضي، والتي لم يتم عمل نسخ رقمية منها وتحتوي علي لغات منقرضة منذ زمن طويل، وتضررت بشدة عينات الفقاريات، وما ضاعف من الحسرة والألم عدم وجود أرشيف رقمي أو مسح ضوئي لمكونات المتحف تحسبا لكارثة كهذه. حتي كتابة هذه السطور، لم تتوصل جهات التحقيق بعد لحقيقة ما حدث وأسباب نشوب الحريق، ولكنهم توقفوا عند بعض النقاط التي أعلنوا عنها في تصريحات صحفية وإعلامية مختلفة منها أن الحريق اندلع عقب إغلاق أبواب المتحف مباشرة، وانتشر بسرعة شديدة وغير عادية، وأن الحريق يأتي بعد أيام قليلة من الموافقة علي منح المتحف 5 مليون دولار لتجديده، وأن هناك مجموعة من المخطوطات اليهودية التي لم تصل إليها النيران دليلا علي أنها اندلعت من مكان بعيد عنها، وتُذكر هذه المصادفة بتغيب ما يزيد عن 3 آلاف موظف يهودي عن برجي نيويورك في يوم تفجيرهما عام 2001. بدأت مشاكل المتحف منذ عقود، فقدر صدر أول تقرير عن هذه المشاكل بسبب نقص الموارد اللازمة للصيانة عام 1844، وتقرير آخر عام 1876، بينما كان أول تحذير من خطر وقوع حريق بالمتحف قبل نحو 50 عاما، وظل يتجدد كل عدة سنوات، حتي أغلق المتحف أبوابه عام 2004 اعتراضا علي رفض تمويل خطة تجديده وتأمينه، ثم غلقه مرة أخري عام 2015 لعدة أشهر بسبب عجزه عن دفع أجور الموظفين، ومؤخرا أغلقت 10 غرف من أصل 30 نتيجة السياسة الاقتصادية الرأسمالية التدميرية وتقليص مخصصات المنشآت الثقافية المختلفة في الميزانية. وفي وقت الحاجة إلي زيادة كبيرة في مخصصات المتحف من الميزانية من أجل تأسيس نظام للأمن والسلامة، قامت الحكومة هناك بتخفيضها بنسبة 60% خلال الثلاث سنوات الأخيرة، لتصبح 128 ألف سنويا، بينما أفادت تقارير فنية إلي حاجة المتحف لنحو 36 مليون دولار لتجديده، ويأتي الحريق بعد اجتماع علي مستوي رفيع عقد العام الماضي بين رؤساء المؤسسات والهيئات التراثية والتاريخية والفنية ونظرائهم في الإطفاء وذلك بمعهد الحكومة للتراث من أجل وضع معايير للوقاية من الحرائق. رغم شدة وقع المصيبة، لكن الحريق كان متوقعا ومنتظرا من قبل الكثيرين وخاصة الباحثين والفدراليين وكذلك إدارة المتحف نفسه والتحذيرات من حدوث الكارثة بعدما آل إليه نتيجة الإهمال، فقبل أيام من نشوب الحريق وتحديدا في 27 يوليو الماضي تقدمت مواطنة بشكوي إلي المدعي العام في ريو دي جانيرو معها تقرير من خبير معماري وصور، تحذر فيها من مخاطر استخدام البلاستيك القابل للاشتعال فوق أسطح المتحف، وكذلك وجود أسلاك غير مغطاة بالمبني وغيرها. أفزع هذا الحريق الكثيرين بداية من القادة والحكام، فعبّر الكثير منهم عن حزنه وألمه ومنهم الرئيس الفرنسي ونظرائه الإيطالي والكندي، رؤساء وزراء انجلترا ورومانيا وأسبانيا وعشرات غيرهم، وكذلك وزير الثقافة البرتغالي الذي أعلن عن اتخاذ كل التدابير لمساعدة المتحف ليستعيد عافيته كمبني في أقرب وقت وعلق »وإن كان تعويض خسائره أمر مستحيل». كما عبر العلماء عن آلامهم وطرحوا رؤاهم، بداية من نائب مدير المتحف »لويز دوارثي» الذي اتهم الحكومات المتعاقبة بالتقصير بل والإجرام في حق المتحف، وفي حق الثقافة والتراث عامة، وقال »إنها كارثة يصعب تحملها، إنها خسارة 200 عام من التراث، 200 عام من الذاكرة، 200 عام من العلم، و200 عام من الثقافة والحضارة». وأبدي عالم الحفريات الأمريكي »مايكل نوفاسيك» حزنه »ضاعت مجموعة نادرة من الحشرات، ومنها أنواع اليعسوب والخنافس لا يوجد غيرها في أي متحف آخر أو في أي مكان في العالم»، وعلي ذات المنوال قال عالم الحشرات البرازيلي »ماركوس جويدوتي» متأثرا »فجوة زمنية كبيرة أحدثتها هذه الكارثة، وأعوام من البحث ذهبت سدي بضياع هذه المجموعات دون أن تكتمل الأبحاث الخاصة بها». في حين علقت العالمة اللغوية الأمريكية »كولين فيتزجيرالد» بقولها »أعتقد أن غياب التعاون المجتمعي إلي جانب المؤامرة الرأسمالية التي يتعرض لها كل ما هو ثقافي وحضاري في العالم يجعل مثل هذه الحرائق متوقعا، ومن الطبيعي ألا يهتز العالم مثلما اهتز عند تفجير برجي نيويورك الأقل أهمية بكثير»، وكذلك »إليانور كومينز» من »ناشونال جيوجرافيك» وصرختها »الثقافة والتراث في خطر، وكما قلت من قبل فإن الكوارث الطبيعية ليست الخطر الأكبر، وإنما الإهمال الذي بات واضحا ومتعمدا بعد الدفع بالجهلاء لتولي مسئولية الثقافة حكوميا في الكثير من دول العالم». وسبق الأقتصادي الكندي الشهير »ميشيل شوسودوفسكي» الزمن وتوقع مثل هذه الحوادث وأسبابها في قولين؛ الأول عام 1973 »إنها لعبة الخصخصة، ولا فرق فيها بين دول متقدمة وأخري متأخرة، والهدف المنشود في نهاية المطاف هو السيطرة علي مقدرات البلاد وسقوطها بين يدي أفراد من الرأسماليين ومن ثم أسر الدول لتعود شعوبها لعصور العبودية البائدة»، والثاني عام 2003 »إن أزمات البرازيل المالية المتعاقبة والتي تسببت في كوارث اجتماعية وثقافية وإنسانية سببها الدين الخارجي الكبير والاستدانة، فصندوق النقد الدولي ليس وسيلة إنقاذ، ولكن ملياراته مشروطة باتخاذ تدابير تقشف تؤدي بالضرورة للخراب والدمار». ودلل عالم الجينات »هيرنان ميراندا» عما تنبأ به شوسودوفسكي »تبدو أنها حوادث بشكل منتظم، حيث غمرت مياه الصرف الصحي متحف مانهاتن عام 2012، واحترق متحف اللغة البرتغالية بساوباولو عام 2015، وحريق خلّف خسائر فادحة بالمتحف الوطني للتاريخ الطبيعي في نيودلهي بالهند عام 2016، وتلك مجرد أمثلة». رغم محاضرات شوسودوفسكي وغيره لعقود ولكن الجميع يسقط كما ذكر، حتي الدول الكبري، فانجلترا التي هربت من الاتحاد الأوربي للتخلص من القيود لم تنجو من الفخ ورضخت لاجراءات التقشف التي تفرض علي المجالات الثقافية قبل غيرها لهذا خفضت مخصصاتها السنوية من الميزانية بنسبة 13%، وحتي الولاياتالمتحدة التي يظن الكثيرون أنها المتآمر، فرضت ضريبة علي المتاحف أثرت سلبا عليها وأصبحت أمام سبيلين كلاهما مر؛ إما زيادة ثمن التذاكر مما سيجعل البعض يمتنع عن الزيارة أو تحمل الضريبة. هذه الشواهد التي تشير إلي أن الأزمة عالمية، لم تمنع حمم البركان من تجاوز الفوهة، وأن تكون ردة فعل عامة الشعب أشد وخاصة شبابه، فما حدث للمتحف كان استكمالا لسلسلة أوجاع يعاني منها الشعب البرازيلي وإهمال في مختلف المجالات وبطالة تتزايد بغلق المؤسسات بعد عجزها عن الاستمرار نتيجة نقص الموارد، وخاصة المكتبات العامة والمراكز الثقافية لتنفيذ شروط البنك الدولي. وما ضاعف من حنقهم في ريو دي جانيرو أنه وفي خضم الاستعداد لدورة الألعاب الأولمبية عام 2016 خضعت المدينة لتحولات كبيرة بمليارات الدولارات في اتجاهات مختلفة لتجديد المنشآت ووضع خطط لتأمينها من المخاطر، ولكن الثقافية منها والتراثية لم تنل نصيبها من ذلك، لهذا أخذ الآلاف منذ صباح اليوم التالي لوقوع الحريق يتظاهرون خارج المتحف وأكثرهم من الشباب الذي توحد حول هتاف »إنهم يحرقون تاريخنا، إنهم يحرقون أحلامنا» وطالبوا بحماية تراثهم وتاريخهم. وسط تكهنات الدوائر الصحفية والإعلامية حول ما إذا كان للحريق علاقة بالانتخابات الرئاسية البرازيلية المنتظرة بعد أيام، كانت الأحداث تلهث، حيث اتجه آلاف من المتظاهرين والتفوا حول المجلس التشريعي يطالبون بالإفراج عن الرئيس اليساري السابق المسجون »لويس داسيلفا»، في حين انضم للمظاهرات مرشح الرئاسة »جيير بولسونارو» والملقب بترامب البرازيل ليتلقي طعنة سكين بالبطن يرقد علي أثرها في العناية المركزة، ويحتاج لنحو أسبوع حتي يتعافي. علي جانب آخر، أطلق مدير المتحف »ألكسندر كيلنر» ومعه مجموعة من الشباب دعوة عامة لكل من سبق له زيارة المتحف والتقط صورة فوتوغرافية أو مقطع فيديو أن يشاركهم به لعمل أرشيف لمقنياته يعوضهم بعض الشيء عما فقدوه، وشاركهم بدعوته موقع »ويكيبديا» الشهير الذي يبحث عن جمع صورة واحدة علي الأقل لكل قطعة من ال 20 مليون التي كانت بالمتحف، كما دعا كلينر المتاحف وغيرها من المؤسسات الثقافية إلي عمل أرشيف رقمي لها وعلق علي ذلك بأن »هذه الكارثة الحضارية لن تكون الأخيرة».