ahmad _alkhamisi @ yahoo .com أريد أن أكتب عن هذه المغامرة المتكررة المسماة الحب، حين تحاول الروح ان تجد صورتها، وعشها، وسماءها، في روح أخري، فتحوم حولها، وتعلو، وتهبط، وتتحرش، وتقيس، وتزن، وتندفع، وتهرب، ثم تحين اللحظة المسكرة المؤلمة، فتنشب الروح في الروح الأخري مشاعرها، بقوة، ولأن هناك روحين، وعالمين، وكوكبين، ومدارين، يلتحمان بعنف، يضغط كل كوكب نفسه قليلا، ويقص كل كوكب من روحه ليسكن حالته الجديدة، وتتطاير منه خلال الاندماج مشاعر كثيرة، وينسلخ الانفعال واللحم والرغبة، ليصل الاثنان إلي حالة كائن آخر مكتمل، ليس " هو "، وليست " هي "، بل روح واحدة . هذه المغامرة العجيبة الملونة التي تتحرش فيها الروح بروح أخري أملا في كائن جديد واحد مخلوق من ذوب روحين، هي إحدي أكثر رحلات النفس غني، وثراء، وبهجة، ولعلها غاية الحياة ومغزاها الأخير النهائي : أن يجد الإنسان نفسه، ولا وجود لنفس الإنسان إلا بنفس أخري . وكلما أوغلت في العمر أيقنت أن للإنسان غاية هي الأرفع والأهم أن يجد نفسه كائنا مكتملا بالحب . ومن دون ذلك فإن كل ما يفعله الإنسان يشبه رحلة طائر يمضي للأمام زاحفا في الصحراء بجناح واحد، يتعثر، ويتقدم ببطء، ويتوقف، وغالبا ما يعجز عن التحليق . إذا لم يجد الإنسان نفسه في الحب فإنه لا يستطيع أن يدافع عن قضية أخري بملء شعوره . لهذا يرتجف الرجل أمام المرأة التي تديم النظر إليه ولا يكف عن سؤال نفسه : أهي كوكبي ؟ هل عيناها مأواي ومثواي وسماي ؟ هل أولد تحت نورها ؟ هل تضمني فلا تحررني ؟ . لا أعرف أحدا كف عن السؤال طيلة حياته . تتحرش الروح بالروح، وينزف كل طائر من عنف الاشتباك، والانخراط، والإقبال، والهروب، وتصبح الروح ساحة تغطيها أنوار الانفعالات، إلي أن يتعب الطائران المشتبكان، فيرتفع أحدهما فوق الآخر، يهدأ قليلا وهو يلعق ريشه من دماء المحبة ومن ثمن المغامرة ومن عذوبة الاندماج ومن مرارة الافتراق. لا أعرف مغامرة أكثر ثراء، لا الغربة، ولا السجن، ولا الفقر، ولا الحرب، ولا السلام، لا شيء أكثر غني من تحرش الروح بالروح بحثا عن صياغة أخري في لهب يصهرهما، إنها المغامرة التي يستطيع الإنسان بعدها أن يعيد خلق العالم، وأن يكون مدافعا أو مهاجما، فارسا، أو شاعرا، محاربا أو مزارعا، مانعا أو مانحا . وحين يظفر المرء بلحظة الحب فإنه يتحد مع كل شيء في الأرض، مع عناصرها، ومعادنها، وسحبها، ويصبح هذا الكائن الضئيل هو الكون كله بأمطاره، وبروقه ورعوده، ويرفع محبوبته إلي أعلي بين النور، فتهبط إليه وتطعمه من فواكهها، ويشتاق إليها مرة كضوء يسري بين الكواكب، ومرة كامرأة من دم ساخن، فتهبط إليه وتطعمه من فاكهة وجودها، وهي لا تكف عن الصعود إلي السماء ولاتكف عن الهبوط إلي الأرض، فتعشي عيناه من نورها، ويتفتت بدنه من نارها، ويظل ثملا باسمها، مخمورا نشوانا من حنانها، حتي يجرفه الشوق إلي ذاته الأولي، فينظر، ويجد أنه لم يبق من ذاته الأولي شيء سوي جراح الاشتباك الذي أفني روحه في الروح الأخري . صندوق الاشتباك هذا، هو أكثر الكنوز قدما، والأكثر جدة، يمتلأ كل يوم، ويفرغ كل يوم، من ملايين القصص، دون أن تتكرر فيه قصة حب واحدة دامت لحظة . هذا الصندوق الذي تكتب وتمحي فيه حكايات الحب بلا نهاية هو أعز ما في الوجود، ولهذا فإن عظمة الكاتب الحقيقية هي أن يكون شاعرا يحفظ للناس ويردد وينشد لهم ولو قصة واحدة من تلك القصص، ولو لحظة واحدة من تلك اللحظات التي تتحرش فيها روحان ببعضهما البعض ثم تشتبكان بعنف حتي تدمي كل منهما الأخري، وما من كاتب كبير لم يسجل ولو ومضة واحدة من برق " اكتمال الكائن " وتحليق الطائر بجناحين، وارتفاعه العظيم، العذب، والمضني، من الأرض إلي السماء . أريد أن أكتب عن ذلك النور، وأشعر أنني إن فعلت، سأغدو أفضل بكثير .