واقعةٌ عادية كان يمكن أن تمر مرورًا عابرًا دون صخب أو ضجةٍ من النوع الذي حدث .. أعني واقعة الكلام الذي صدر عن النائب زياد العليمي، لولا الفراغُ المركَّب الذي نعاني منه، ولولا المراهقة السياسية وفوضي الديمقراطية التي نعيشها، ولولا شهوة الظهور والوقوف أمام كاميرات التليفزيون، ولولا الفضائيات التي تلهث وراء أيّ حنجرة تقذف بكل ما يحرِّض ويثير . فكلام العليمي الذي وقفوا عنده وشنّعوا عليه وهوّلوا فيه لا يعدو أن يكون مثَلاً مألوفًا في حياتنا يطلقه المتكلم في موقف هو -غالبًا - طرفٌ فيه . ومعروف أنّ المثَل هو عبارةٌ تصدرُ عن شخصٍ ما في حادثةٍ أو موقفٍ ما واصفةًّ تلك الحادثة أو الموقف وصفًا دقيقًا يترك أثره في الحاضرين الذين يُشِيعون هذه العبارة وينشرونها، فلا تلبثُ أن تُذكر وتُردّد في الأحداث أو المواقف المشابهة . أبرز خصائص المثَل أنه لا يُغيَّر،لا لفظُه ولا ما أُريد به عند إطلاقه الأول، وإن كان إطلاقه بعد المرة الأولي يتضمن أنه يصدر علي سبيل التشبيه تشبيه الموقف الجديد بالموقف الأول الذي صدر المثل فيه . هذا مع ضرورة تأكيد أنّ المثَل يختلف عن التشبيه العادي في أن الأوّل له طابع الثبات لفظا وغرضاً، بينما الثاني يقبل الخضوع لعملياتٍ من التحوير والتغيير في بنيته وتوظيفه. تتضمن خاصية الثبات في المثل عبارته ومغزاه التغاضي عن ترخُّصات كثيرة تتمتع بها أنواع أخري من الاقتباس أو التضمين أو غيرهما من صور الانتفاع بالموروث القولي ، حيث يمكن التحوير فيها أحيانًا، بينما يبقي المثَل بمثابة المسكوكة التي لا يُقتَرب من صورتها القولية ، ولا يُقْتَربُ بالتالي - من مضمونها، الثابت بطبيعة الحال . فقد يأتي صديقٌ لك بخبر يقينيّ حول أمرٍ مُختلف فيه ، فتقول ( قطعتْ جَهيزةُ قولَ كلِّ خطيب ) دون نظر إلي أن الصديق ذكر، وجهيزةُ تلك كانت أنثي. وقد تنظر إلي صديق لك عصبيِّ المزاج جالسٍ علي مقعد وثير وقد أخذتْه غفوة، فتقول :( الفتنةُ نائمةٌ ) فيقول لك : ( لعن الله من أيقظها ) ثم تضحكان بعد ذلك، لعلمكما أنَّ (الفتنة) اسم معنًي وليس له تحقُّق حسّي وبالتالي فحكاية النوم واليقظة لا محل لها من الأساس . بعض الأمثال كالمثل الذي استخدمه العليمي يُعامل خطأً- بسبب بنيته الموافقة لبنية التشبيه يُعامل معاملة التشبيه. وهذا مع الأسف هو الذي جرّ إلي كل ما جري من سوء الفهم لهذا المثل، لسببٍ جوهريّ هو أن المتحدثين -دون علمٍ- غلّبوا خاصيّة التشبيه علي خاصيّة المثل السائر . وإذا كان المثَل كما قلنا- لا يتغير، لا لفظًا ولا مغزًي، ويُنظر إليه بوصفه كتلةً واحدةً دالةً بجملتها علي ما أُريد بها في حال إطلاقها الأول .. فإن التشبيه خلافًا لذلك تحكمه النسبيةُ والقابلية لتغيّر الدلالة، بحكم تعدد جهات النظر إلي الكائن الواحد أو المفردة الواحدة من مفردات الطبيعة . لقد كان الاحتكام إلي خاصية الإطلاق والثبات في دلالة المثَل ولفظه كفيلاً بسد الطريق أمام هواة التشقيق والجدل، إذْ كان من شأنه أن يُبقي كلام العليمي عند مراده الأساسي وهو (التغاضي عن الجاني القويّ وتوجيه الاتهام إلي البريء الضعيف ) أمَّا الدخول إلي تفاصيل الكلمات التي يتكون منها المثل، فإنَّ من شأنه أن يُخضِع المثَل لمنطق التشبيه، بما قد يؤدي إلي سوء الفهم؛ وهذا مع الأسف ما حدث فعلاً، إذْ ثبَّت الكثيرون نظرَهم عند كلمة (الحمار) وراحوا يتباكوْن ويترحمون علي الأخلاق الحميدة والأدب الجمّ ....إلخ، وذلك بالنظر إلي المُعتاد عندهم من دلالة كلمة (الحمار) . وإذا كان الخطأ الأول الذي وقعوا فيه وهو معاملة المثل معاملة التشبيه للغفلة عن الفرق بين النوعين فإنَّ المبالغة في التباكي علي الأخلاق والقيم بالنظر إلي المعتاد عندهم من دلالة كلمة الحمار تُمثل الخطأ الثاني، إذْ من المعروف أنّ الكثير من كائنات الطبيعة يحمل الكثير من الدلالات التي تُستغلُّ عند توظيفه بيانيًّا : فالنار تُضيء والنار تحرق، والبحر كريم والبحر يُغرق، والليل مُخيف والليل يستُر، والبدر يُضيء والبدر يفضحُ ؛ هكذا تتعد جهات النظر إلي الأشياء كما تتعدد دلالتها ووظائفها التعبيرية . هذه القاعدة تنطبق علي كلمة ( الحمار) في الثقافة العربية، فقد يشبَّه به في الصبر علي تحمل المشاقّ وفي الغباء والبلادة، ومع ذلك جاء عنهم المثل : ( كلُّ الصّيْد في جوْف الفرا ) والفرا : هو الحمار الوحشي، ويُراد بالمثل بالنظر إلي الواقعة الأولي التي صدر فيها أنّ مَن يصيد حمار الوحش أوْفر حظًّا ممن يصيد أي حيوان آخر . وبهذا المثل تألّف الرسول -صلي الله عليه وسلم- أبا سفيان زعيم بني أمية وطيّب خاطره عندما أخَّر الإذن له بالدخول عليه بعد فتح مكة،لقد أفهمه عن طريق ذكر المثل- أنه يعدِل في مكانته كلّ الذين سبقوه بالدخول. ومع كل ما تقدّم نعود فنقول لم يكن تشبيه طَرفٍ ما بطرف آخر من أيّ نوع هو المقصود في كلام العليمي ، كان المقصود هو تمثيل حالة بحالة ، أو موقف بموقف ؛ حالة ، أو موقف التخاذل من جهات التحقيق عن عقاب القوي الجاني وإيقاع العقاب علي الضعيف البريء.. بحالة أو موقف مَن عجز عن ضرب حماره خوفًا منه لقوته فراح يضرب برْزَعته التي لا حول لها ولا قوة . من هنا ينبغي أن يُستمَدّ المعني الذي تحمله الكلمة في المثل الذي جاء علي لسان العليمي .. إنَّه معني (القويّ المُستحق للعقوبة) يُعفَي عنه، وفي المقابل تُنزَل العقوبة بالبريء الضعيف، وليس هناك أيّ معني آخر . علي الرغم مما انزلق إليه النائب تحت إلحاح جمهوره- من شرح وتفاصيل لم يقصد إليها، ولا صلة لها بالمعني الذي قصد إليه، والذي هو مضمون المثَل. أما الخطأ الأفدح الداعي إلي الأسف حقًّا .. فهو أن كتّابنا الصناديد ونوّابنا البهاليل وكثيرٌ منهم تطوّعوا بالشرح والتحليل، ثمّ الإبانة والمطالبة بعقوبة النائب دون أن يَطلُب منهم أحد - قد انصرفوا عن المعني الحقيقي المقصود بالمثل في كلام العليمي، وهو التنديد بجهات التحقيق التي تغاضت في رأيه - عن توجيه الاتهام إلي المسئول الحقيقي اتقاءً لقوته، والاتجاه به أيّ بالاتهام إلي جهات غير مسئولة، أو أقل مسئوليةً عن الواقعة ، أقول انصرفوا عن المعني الحقيقي الذي قصد إليه النائب وكان ينبغي سؤاله عنه، إلي اجتهادات أغلبها لا محل له من الصواب، إن لم يكن عاريا تماما من الصواب. وتلك بكل صراحة هي عادتنا - غالبًا (وقد عادت ريمة إلي عادتها القديمة) في ترك القضايا الحقيقية وإضاعة الوقت والإمساك بالفرعيات أو الجزئيات، أو بعبارة أخري ترك رؤوس المسائل والجري وراء الذيول .