كان فرناندو بيسوا يتجول دائماً من هنا لهناك حاملا صندوقا خاصا، يحفظ بداخله آلاف الأوراق المرتبة بشكل ملغز والتي تضم كتاباته التي لم ينشرها. وعقب وفاته في عام 1935، ظلت أشياؤه ومنها الصندوق ببيت شقيقته في لشبونة، وحافظت عليه خلال عقود. أثناء ذلك، لم يتوقف الباحثون البرتغاليون عن زيارتها خلال الأربعينيات والستينيات- متخفين خوفاً من رجال ديكتاتورية سالازار- بحثا بين أوراق الشاعر عن كنوزه الأدبية. وعثروا عليها. لقد ترك بيسوا ما يقرب من 25 ألف مخطوط في صندوقه السحري. ومن بين الأشياء، كان الصندوق يضم أوراقاً متناثرة، خطابات، كتباً غير منتهية، دواوين شعر، كتابات غير مصنفة، تأملات، كراسات وشبه يوميات، اعترافات، أبياتاً شعرية، ومظاريف بها مخطوط كتابه الأشهر "كتاب الطمأنينة"، ومخطوطاً لرواية بوليسية لم يتمها كان قد استوحاها عام 1930 عندما ساعد ساحراً مشهوراً علي تصنع الانتحار ليستعيد زوجته. وكان من بين محتويات الصندوق التي عُرفت مؤخراً، ما يُظن أنه كتاب بيسوا الأخير، الذي نشره منذ أسبوعين متخصصان في أعمال الشاعر. الكتاب يضم خمسين نصاً لم يُنشروا من قبل، وعنوانه "نظرية سيباستيان والإمبراطورية الخامسة"، وهو كتاب نثري يقول عنه محرراه إنه:"عن البُعد الصوفي للقومية البرتغالية". والآن، لن يضطر المتخصصون في أدب بيسوا أن يزوروا بيت شقيقة الكاتب وفتح الصندوق والبحث فيه من جديد، فإرث بيسوا صار موجوداً الآن ومرتباً في المكتبة القومية البرتغالية(جدير بالذكر أن الصندوق قد بيع في مزاد منذ ثلاث سنوات بمبلغ 60 ألف يورو لرجل مجهول). لكن أوراق الشاعر تقدم نفس الصعوبات الملغزة كما في الستينيات: في نفس الورقة اعتاد بيسوا أن يكتب- بخط صغير ومائل- قصيدة وبجانبها مقالاً؛ أو خطاباً وتصحيحات القصيدة السابقة أو بعض أبيات من نفس القصيدة. وطبقاً لما يذكره أحد أكبر المتخصصين حالياً في بيسوا، ريتشارد زينيت، فالشاعر اعتاد البدء في مشاريع كتب كانت تتفرع بعد ذلك لبدايات أعمال مختلفة تتحول في نفس الوقت إلي شيء آخر، وفي معظم الأحيان تبقي دون أن تتم، لكنها توضح كتابة جميلة في طريق الانتهاء. أثناء هذه الاكتشافات، تنظّم مؤسسة جولبنكيان بلشبونة معرضاً عن الشاعر يضم بعض هذه الكراسات التي بدأت كيوميات ودواوين وانتهت ككتب للحسابات سجّل فيها ديون المحلات التجارية التي كان يعمل بها الكاتب. سيتضمن المعرض أيضاً إشارات كثيرة ل "الأنا الآخر" للشاعر، ولأسمائه المتعددة، وللشعراء المختلفين الذين اخترع لهم بيسوا أسلوباً وتاريخاً وشخصية. هناك أيضاً صفحات خالدة، مثل تلك التي يسجّل في أولها: العنوان: الطمأنينة. ريتشارد زينيت يعرف جيداً إرث بيسوا، يقول:"هناك صفحات كثيرة بالنثر لم تُنشَر، خاصة ما يتعلق بالسياسة. أما الشعر فليس بنفس الكثرة. المشكلة تكمن في تصنيفه كله. كيف ترتب هذه الأوراق الغارقة في فوضي إبداعية كان بيسوا يعيش فيها علي الدوام، حيث تختلط نصوص مختلفة وفي نفس الوقت بأسماء كُتّاب أيضاً مختلفين؟ كان بيسوا عاشقاً للحركة ويبدو أن عمله يستجيب لهذه الحركة المستمرة أيضاً". إحدي أوراق بيسوا في المعرض ستكون ورقة في كراسة-يوميات، كُتبت بتاريخ 1نوفمبر1935، قبل شهر من وفاته.. والتي كتب فيها قصيدته الأخيرة التي تبدأ ببيت:" كم يصبح الليل حزيناً بلا قمر".