صارحتُ صديقي: جميع محاولاتي ياءت بالفشل. كنا قد بلغنا أعتاب الفجر، حتي إننا سمعنا صياح ديك مُبادر، أصغينا بافتتان مشترك لصياحه اللطيف، قبل أن يقول: الأمر واضح وضوح عين الديك، لا يحتاج إلي تبيان. قال ما قاله وهويتثاءب في شقته حيث نسهر سويةً سهرتنا الأسبوعية، وقد سهرنا استثناء في تلك الليلة يوم السبت لا الجمعة. نسهر بصحبة أصدقاء آخرين لا يلبثون أن يغادروا تباعاً مع منتصف الليل أوبعده بقليل، وأتأخر أنا. أحتسي مع الصديق مشروبات ساخنة وباردة، ونتجاذب الحديث في شئون البلاد والعباد، ثم نشرًق ونغرًب فيما تأخذنا الأحاديث المسترسلة. النعاس ضغط عليه وأظهره بمزيد من النحول. وفيما كنت أسعي للتخفيف من حِدًة صحوي، قلت: إنك تدفع الثمن وفي ذلك ظلم أيما ظلم ( نتحدث بمثل هذه الفصحي أحياناً علي سبيل التندر). وكنت أقصد أنه يضطر للسهر المتأخر مجاراة لي، أنا الذي لا أنام حين أصحو، ولا أصحوإذا نمت. قال: أنت تعرف.. إنها الساعة البيولوجية. فأجبت بالإيجاب: إنها ساعتي. المشكلة في ساعتي. قال: إن هناك أناساً كثيرين رجالاً ونساء في الشرق والغرب، يشكون من هذه الحالة. زوجتي الأولي مثلاً ،كنت أتركها كل ليلة ساهرة علي نومي، وأغادر في الصباح إلي عملي وهي مستغرقة في النوم ( سبق لها أن عملت في التمريض بدوام مسائي). تساءلت مع نفسي إذا كانت غيًرت عاداتها بعد طلاقها منه، لكن الأرجح أن لا. وربما كان الاختلاف في مواقيت نوم واستيقاظ كل منهما، أحد أسباب انفصالهما. بالنسبة لي فقد تعايشت زوجتي مع حالتي، ولوتغيرت عاداتي فلسوف يفاجئها ذلك أيما مفاجأة ( لا نتحدث بهذه الفصحي معاً) وقد تضطر لبذل جهد جهيد مديد، كي تتعايش مع هذا المستجد إذا استجد ولن يستجد. قال لي: إنها ساعتك. قلت: بلي. وأردفت: إنها في حالة تأخير دائم لساعتين علي الأقل. حين يجرون تغييراً علي التوقيت الصيفي والشتوي أزداد اضطراباً، فكيف مع التأخير والتقديم الطارئين.. قال: واضح، الساعة الآن هي الرابعة فجراً. أما بالنسبة لك.. لتوقيت ساعتك فهي الثانية فقط. بالضبط. قلت له. قال: هذه هي المشكلة. وذكر أنه سمع في العام الماضي حين كان مغترباً في أستراليا، وقد أمضي هناك سبعة أعوام ونال جنسية بلاد الكنغرو، سمع أن عيادة تم افتتاحها لتضبيط (ضبط ) الساعات البيولوجية، ليس في كينبارا العاصمة بل في ملبورن، ولاقي افتتاحها صدي واسعاً لدي مختلف شرائح المجتمع. وسألته إذا كان ذهب اليها، إلي تلك العيادة، فنفي ذلك فيما كنت أتراجع بعصبية عن طرح سؤالي غير الذكي، فما حاجته للذهاب إلي تلك العيادة، ما دامت ساعته البيولوجية مضبوطة منضبطة وما شاء الله عليها. ألكي يبدد أمواله علي ما لا يستحق؟. سألته عن الكلفة فقال إنها علي حد علمه لا تزيد عن سبعمائة دولار استرالي( نحو500 دولار أميركي). فوافقته علي أن المبلغ ليس كبيراً إذا كانت النتائج مضمونة. قال: كل شيء بالليزر وعلي الكمبيوتر، ويستغرق يوماً وبعض يوم. يدير العيادة طبيب وجراح أعصاب عبقري، شاب لم يتجاوز الثلاثين من عمره من أصل آسيوي، تحف به نخبة من ممرضات متعددات الجنسية. لكن زوجته (زوجة صديقي) السابقة رفضت الذهاب الي العيادة. فاجأني بالمعلومة إذ كنت أعتقد أن الأحداث، سوف تتجه في اتجاه آخر. فسارع للتوضيح: رفضت خشية العبث بساعتها البيولوجية كما قالت. فأن تكون الساعة تؤخر، كما كانت تقول، أفضل ألف مرة من أن تتعطل ولا تعود تعمل أبداً. منطق. نعم لها منطقها الخاص بها. لكنها شكاكة. جداً. حتي في اكتشافات العلم؟ حتي في هذه. وأبلغني أنه سمع أن تلك العيادة، بعد أن طارت شهرتها في وقت قياسي الي كل مكان (استغرب صديقي أني لم أسمع بها)، سوف تفتح "فروعاً" لها في الخارج. وأن الطبيب الشاب أخذ يستغل أوقات فراغه المحدودة ( في الأعياد وأيام العطل مثلاً) في تدريب أطباء شبان وأكفاء في هذا التخصص: تخصص ضبط وصيانة الساعات البيولوجية.وأن التدريب يكلف المتدرب أحد عشر ألف دولار في دورة مكثفة تستغرق أحد عشر أسبوعاً. استرالي؟. أسبوع استرالي؟. قلت:لا..أعني هل المبلغ بالدولار الاسترالي؟. قال: لا.أحد عشر ألف دولار أميركي. وسألته إذا كانت جمعية جراحي الأعصاب العالمية ومقرها بوتسدام، قد اعترفت بهذا التخصص أم لا، فقال إنها لم تعترف به ولم تنكره علي أصحابه. أبقت الأمر معلقاً. أجاب: بالضبط، أبقته معلقاً مثل أمور كثيرة في دنيا الاكتشافات العلمية، ومنها عقاقير إطالة أمد الحياة البشرية. قلت له وأنا أفكر بالانصراف بعدما تجاوز توقيت ساعتي البيولوجية الثانية فجراً، والرابعة بالنسبة للناس: لا أجدني متحمساً للفكرة. فقال إنه يستغرب ذلك. أوضحت أن الأمر لا يتعلق بميلي الي العناد، ولا بتشكيكي بالكشوفات العلمية. بم يتعلق إذن؟. قلت إنه يتعلق بما قرأته لباحث فرنسي في البيولوجيا الحيوية يدعي دومنيك هومير، أثبتت بحوثه وإحصائياته، أن من يعانون من تأخير في ساعاتهم البيولوجية ينعمون بعمر أطول. قال: إنه لم يسمع باسم هذا الباحث. طمأنته إنه ليس معروفاً إلا علي نطاق ضيق ،وأني عرفت باسمه بمحض المصادفة، وشرحت له إن التأخير في الساعة البيولوجية، يعني حسب هومير أن من يبلغ السبعين من هؤلاء يستشعر أنه في الخمسين فقط من عمره، بما يؤثر إيجاباً علي أداء أعضاء الجسم، فلماذا أسعي إلي حتفي بظلفي ( تبلغ بنا الفصحي هذا المبلغ..). قال صديقي: ربما يفسر ذلك ضعف الإقبال، علي عيادة الطبيب الاسترالي من أصل تيموري (تيمور الشرقية) في ملبورن، رغم انفرادها بهذا التخصص العصري. إذن، لم يكن الإقبال طيباً. لا، لم يكن طيباُ، لكنها لقيت صدي واسعاً انتشر كالنار في الهشيم. بعض الناس ومنهم الطبيب الاسترالي من أصل تيموري مولعون بالشهرة والمال، أكثر من التميز الفعلي. ولما لم أجد ما أضيفه للتو، بادر إلي القول بعينين نصف مغمضتين: ليس هذا هوالخلل الوحيد الذي يصيب الساعة البيولوجية. ما الخلل الآخر؟. إنه خلل ليس شائعاً كالخلل الذي تعانيه ساعتك. ما هو؟. هناك من تتقدم ساعتهم البيولوجية عن غالبية الناس. خامسة الناس بالنسبة اليهم هي السادسة وأحياناً السابعة . هل تعرف أحداً منهم؟. أعرف. من؟. أنا. أنت؟. وقد بقي علي بدء دوامي في العمل ساعتان ( يعمل تُرجماناً في مركز دراسات سياحية، وأعمل أنا محرر بيانات في شركة زراعية). كان يجب أن تستغل وجودك في استراليا وتقصد تلك العيادة. شهرة تلك العيادة اقترنت بإصلاح الساعات البيولوجية المتأخرة ،لا المتقدمة. قال ذلك وسقط نائماً في مقعده كأنما مغشياً عليه، وقد بذلت جهداً فائقاً لإيقاظه، كي ينهض ويغلق باب البيت ورائي.