ذهب عمار علي حسن بعيدا في روايته الأخيرة "شجرة العابد" التي صدرت عن دار نفرو مؤخرا بعيدا عن العالم الذي شكل مادة خصبة لرواياته السابقة "حكاية شمردل" و"جدران المدي" و"زهر الخريف" أو حتي ذلك الذي نسج حوله مجموعتيه القصصيتين "عرب العطيات" و"أحلام منسية". ففي شجرة العابد هناك اقتحام واضح لمكان وزمان مختلفين، حيث تجري وقائع الرواية في لحظة فارقة من الصراع بين الشرق والغرب في أواخر القرن الخامس عشر وهو عصر المماليك، أما مكانها فيصل صعيد مصر وصحاريها بالقاهرة في أيامها الزاهرة. لكن الزمان ليس وحده المختلف بل النوع الذي تنتمي إليه الرواية، وهو "الواقعية السحرية" حيث يتعانق الواقع والخيال في لحظات تُراوِح فيها أقدار شخصيات الرواية بين الأوجاع والمسرات. وشخصيات الرواية متخيلة بالكامل، وإن كان المؤلف قد حرص علي أن يرسم ملامح المكان الذي تدور فيه الأحداث بدقة، مستفيدا في هذا بالعديد من المراجع التاريخية والجغرافية حول هذه الفترة. وبطلة الرواية المتفردة شجرة عجيبة مقدسة يتطلع الجميع إليها وإن اختلفت مقاصدهم، فهناك من يراها تعبير عن الذات الإلهية في صورة غير مسبوقة، وهناك من يعتقد أنها جنة الفردوس، ويوجد من يتصور أن الشجرة هي الحقيقة المطلقة التي يعجز أغلب الناس عن بلوغها ولا يصل إليها إلا من يكتشف الطاقة الهائلة الكامنة بين جوانجه، أو يصل إلي أعلي مدي في التماهي بالحقائق السرمدية، وهناك من يعتقد أن هذه الشجرة كنز ثمين من الجواهر عليه أن يقتنصه، مثلما أراد السلطان المملوكي الذي جاء بالسحرة والدراويش ليساعدوه علي بلوغ الشجرة، وكذلك شيوخ القبائل البدوية الذين توارثوا أسطورة الشجرة أبا عن جد. ويوجد من اعتقد أن في الشجرة ترياقاً يشفي الأمراض المستعصية، مثلما اعتقد حاكم منفلوط، الذي بذل كل جهد مستطاع في الوصول إلي الشجرة لينقذ ابنته من مرض عضال. ومن الخيال أيضا في الرواية تلك العلاقة بين بطلها ومحرك أحداثها وبين جنية فاتنة عشقته، فأخذته من عالمه القديم حيث كان طالب علم أزهرِيّ يسعي في شبابه إلي الثورة علي السلطان المملوكي الجائر فانتهي إلي درب التصوف هارباً من العسس والسجن والتعذيب والشنق الذي ينتظره، بعد ثلاثين عاما قضاها وراء الحجب حين اصطحبته معشوقته إلي دنياها. وهنا يتخيل المؤلف شكل الحياة في عالم الجن، وينتج في هذه الناحية أسطورته الخالصة، حيث لا يقع في الصور النمطية القديمة عن هذا العالم، التي حفلت بها الأساطير العربية وعلي رأسها "ألف ليلة وليلة". وتبين الرواية كيف استخدمت الجنية بطل الرواية "عاكف" لتصل إلي غرض ملكهم الذي يسعي للاستحواذ علي الشجرة الغريبة، بينما اتكل هو عليها في تصريف أموره فحسبه الناس شيخ طريقة صوفية ومن أهل الولاية. لكن الجنية تقطع صلتها به فجأة، بعد أن مات ملكهم المهتم بأمر الشجرة، لتبدأ علاقة جديدة بينه وبين أرملة جميلة من الإنس، مات زوجها في قتال الفرنجة عند جزيرة قبرص. هذه الإنسية علمته كيف يكتشف ذاته التي أهملها طويلا، فوصل إلي ما أراد بالمصالحة بين العقل والروح، والمزاوجة بين العلم والذوق، لاسيما حين اختلي إلي نفسه سنوات طويلة في زاوية صغيرة بناها إلي جانب أحد أديرة الأقباط بصحراء مصر الشرقية، متخليا عن أوهام السلاطين المتعاقبين. في "شجرة العابد" تروي الشجرة الغريبة، ويحكي العابد الزاهد فيقف من يقرأ علي بعض ما تنطوي عليه الحياة من فلسفة عميقة، ويعرف بعض طرائق العيش وأشكال العمران وألوان الفنون والثقافة السائدة في مصر المملوكية عند المسلمين والمسيحيين واليهود، من أهل الريف والحضر والبدو، ويتأكد من أن استبداد الحكم وفساده يهلك الحرث والنسل، ويفهم أن مصير الإنسانية واحد مهما تفرقت بالناس السبل، ويعلم أن كلا منا يمكن أن يبلغ ما يصبو إليه إن اكتشف القدرة العظيمة المطمورة في روحه ونفسه وعقله. واللغة في الرواية شاعرية في أغلب الأحيان، وبنيتها دائرية، كالزمن تماما، لأنها تبدأ من حيث تنتهي. وتقتطف الرواية بعض الأوراد الصوفية وتنطوي علي معلومات عن ثلاثة من كبار الزاهدين وأبو الرهبنة المصرية الأنبا أنطونيوس، وفيها من العلامات والشفرات الصوفية الكثير، بقدر ما فيها أيضا العديد من المعارف عن أحوال الناس في زمن الرواية، من زاوية تصرفاتهم وطقوسهم ومسمياتهم وأشغالهم وطبيعة التفاعلات القائمة بينهم. وهنا يبذل المؤلف جهدا كبيرا في الانتقال بنا من المتخيل إلي الواقعي دون أن نشعر بانشطار الرؤية وانقطاع التواصل، فتفاصيل الحياة الطبيعية تندمج مع تهويمات العالم المتخيل دون عناء. وللرواية، التي تقع في 412 صفحة من القطع المتوسط، مفتاحان الأول هو العبارة التي صدر بها المؤلف روايته وهي للصوفي الكبير محيي الدين بن عربي وتقول: "كل شوق يسكن باللقاء لا يعول عليه" والثاني هو الفقرة الأولي من الرواية التي تعد شفرة مدمجة لكل أحداثها ووقائعها حيث يقول المؤلف: "آه يا حفصة. آه يا وجعي الجميل. استدار الزمن، وتسربت الأيام من بين أصابعي. أنت مستريحة الآن في الملكوت الأعلي، وأنا معذب بالانتظار، أروض النسيان، لكنه يأكل روحي بلا هوادة. ما يزيد علي مائة عام وهيئتي علي حالها، كأنني لا أزال أدب وراء شيخي القناوي في شوارع المحروسة منتظرا لحظة الانقضاض علي السلطان الجائر. تعاقب السلاطين، وغارت أمامي كل حالات التمرد. واحدة بقيت مشتعلة طيلة الوقت، إنها محاولة الانتصار علي نفسي. ألم تبوحي بذلك ذات يوم يا حفصة؟ ألم تطلبي هذا وأنا أقول لك: أنت شيخي وأنا مريدك". وفضلا عما تحويه "شجرة العابد" من معارف مضفرة بعالم متخيل فإنها تنطوي علي جاذبية واضحة في قراءتها، وهذا مما يحسب للمؤلف، ويضيف إلي جمالية روايته، التي تعزز الواقعية السحرية العربية الجديدة.