لن يختفي أبداً لأنه ترك في نفس كل من اصطفاه صديقاً واقترب منه قدرة علي الحب والحياة، ونزوعاً للتفاؤل في قلب أي أزمة، وإبتهاجاً بالقليل، وترفعاً عن امتلاك الكثير، وصوفية دون ادعاء. تذكرت أحمد اسماعيل وانا أسير في صباح سبت ممطر علي الرصيف الحجري المحاذي لشاطيء بحيرة ليمان في جنيف أشاهد معرضاً لفن الكاريكاتير. أوز أبيض يطفو علي سطح الماء قرب الشاطيء والمنازل تنام علي التلال في الجانب الاخر من البحيرة ووراءها قمم جبلية شاهقة اختفي بعضها فوق السحب المحيطة بالمدينة السويسرية الهادئة. الجو غائم، رذاذ المطر الخفيف مستمر دون انقطاع منذ استيقظت، لكن الاشرعة التي تتهادي في البحيرة كثيرة، قوارب خرج اصحابها ليستمتعوا ببداية عطلة نهاية الأسبوع، يأملون لا شك في ان يتوقف المطر الخفيف وتنشق السماء عن شمس مثل الأمس. سفينة عائمة بها مطعم تعبر هذا الجانب من البحيرة إلي الآخر، ربما لتلتقط زبائن الصباح. الساعة ما زالت التاسعة ولا اري سوي رجل يبتسم لي وهو يسير بحوار كلبه وآخر ينظر إلي الناحية الاخري عندما يراني ويحدق في البحيرة وشاب وفتاة متعانقان وعجوز يمشي ببطء. لم التق سوي اشخاص قلائل طوال الكيلومتر الذي سرته علي الرصيف العريض المحاذي للبحيرة. اللوحات الكاريكاتورية تم تكبيرها ورفعت علي اعمدة تتواتر كل خمسة امتار. معرض فني يمكن ان يستمتع به المشاة ولكن ايضا قائدو السيارات اذا تمهلوا قليلا أو اوقفتهم إشارات المرور، احمل مظلة تقيني من المطر الهاديء وانظر إلي خضرة الاشجار والوان الزهور البديعة في اصص متراصة علي شرفات البيوت الواطئة علي الجانب الأخر، وافكر ان أحمد كان ولا شك سيستمتع بهذه النزهة. كنت سأصف له بعض اللوحات، كما فعلت مع بعض النقوش علي المساجد في مسيرتنا الاخيرة في شارع المعز لدين الله الفاطمي بعد تجديده. كنا هناك ابناء البلد، لكنني هنا علي هذا الكورنيش الانيق مجرد سائح وغريب أمامه ثلاث ساعات قبل موعد الطائرة. كنت سأقول لأحمد، موضوعات المعرض صعبة التناول لأنها تتعرض للدين، وحرية التعبير، والصراعات المسلحة، وهي معضلة لأن هذه الموضوعات استهلكت في اعمال كثيرة من قبل وعلي الفنان ان يقاربها مرة أخري بشكل مختلف يبحث عن زاوية جديدة، وهي حساسة لأن الديكتاتوريين والفاشيين والاصوليين يفتقدون عادة حس المرح والفكاهة ويسلكون بصرامة وجدية، ويبالغون في الخوف ورد الفعل الساخط علي كلمة او رسم . هذه سطوة وفائدة فن الكاريكاتير، السخرية من أكثر الموضوعات الشائكة، سخرية تفتح مجالاً امام رؤية جديدة لما حدث ولما يمكن ان يكون عليه العالم. وهي سخرية يمارسها الفنانون بالوان بهيجة وافكار عبقرية لموضوعاتهم تقلل من قسوة الموضوعات. وهذا بالضبط ما كنته يا أحمد، القدرة علي البقاء ناشراً التفاؤل والمرح والسخرية رغم واقعك القاسي. رحل أحمد، الشاعر والرسام والعاشق، في اواخر شهر مايو فجأة، ولكنه، كما اعرفه واحبه، لن يختفي أبداً لأنه ترك في نفس كل من اصطفاه صديقاً واقترب منه قدرة علي الحب والحياة، ونزوعاً للتفاؤل في قلب أي أزمة، وإبتهاجاً بالقليل، وترفعاً عن امتلاك الكثير، وصوفية دون ادعاء. ومن يترك بعضاً من هذا في قلوب عديد من الناس قد يرحل جسده ولكن روحه وفكره وعواطفه تكمن في روح وفكر وعواطف من نالوا صداقته ووده. داهمني خبر موته كما لو أن قطاراً سريعاً صدمني ولكنه لم يدهسني ويمزقني تحت عجلاته بل فضل ان يسحبني في التراب والحصي وراءه، بيد انه تركني بعد اسابيع قليلة افكر كما كان احمد يفكر بعد ان يخسر صديقا في المباراة المعروفة النتيجة بين الانسان والموت: انه يحتفل بالحياة، وكانه مشجع حزن بشدة علي خسارة فريقه في الملعب ولكنه خرج من الاستاد الي اقرب مقهي او بار وقرر ان يحتفل بالحياة ويستعد للمباراة القادمة. هكذا فعلت انا وأحمد بعد ان شيعنا جثمان محمد عودة سوية منذ عدة سنوات. الآن اشعر بغصة في القلب عندما اتذكر أحمد اسماعيل ولكن سريعاً ما تحل محلها ابتسامته ووجهه ونهمه للحياة. كان أحمد شجاعاً وواجه رحيله بشجاعة، بل انه سخر من طبيب فظ في مستشفي قاهري في ساعاته الأخيرة. التقينا للمرة الأخيرة في فبراير عندما هبطت القاهرة لأعرف كيف هو نسيم الحرية وكيف تكون الوان الشجر وعيون البشر دون صور مبارك الشائهة والضخمة تخيم بجرمها الكئيب عليهم من كل اتجاه. كان يتقافز فرحاً في التليفون كلما تحدثنا خلال أسابيع الثورة، يري نساء ورجال مصر يغيرون مسار التاريخ في البلاد، ووصف لي كيف كان يذهب كلما استطاع إلي ميدان التحرير ويقف هناك بالساعات رغم متاعب متزايدة في قدميه وعلل في جسده كان يتحاشي الحديث عنها. عندما التقينا في مقهي بينوس في الزمالك بعد خلع مبارك بيومين كان منطفيء العينين، وجهه مصفر قليلاً، ونحيلاً كما لم أره من قبل حتي أن ملابسه التي أعرفها بدت كما لو أنها تخص شخصاً أخر أضخم وأكثر بدانة. لم أكن أعرف ان رحيله قد بدأ، لكأنه كان ينتظر حتي يري مصر قادرة علي ان تتغير بيد شعبها قبل ان يرحل. كان أحمد شجاعاً لم يرحل ولم ينسحب ولم يكتئب رغم تهاوي كل الاحلام: استمر أحمد الرسام في الحياة والفرح بعد ان فقد البصر تقريباً، استمر احمد الصحفي في الحياة، والكتابة احياناً، رغم الانهيار المهني والمالي في صحيفة "الأهالي"، تلك الصحيفة التي رفض عرضا مغرياً بالهجرة ودراسة الدكتوراه في الولاياتالمتحدة من اجل ان يكون فردا في كتيبة مؤسسيها مع الصديق الراحل محمد عودة، استمر احمد يحلم بمصر مختلفة ويكرر كلمات عودة عن ان الشعب المصري سيقوم فجأة رغم انه كان احياناً يبدو وكأنه لا يصدق نفسه، ورغم ان الوطن بات متوحشاً ولم يعد سكناً. عندما كانت الحياة كلها تنسحب: المهنة، الاصدقاء، الرسم، الكتابة، والصحة .. كلها تنسحب رويداً رويداً وهو بعده في اوائل الخمسينيات من العمر، واصل احمد المسير: في عينيه نفس الألق وفي صوته نفس العاطفة المشبوبة وفي نبراته همسات فرح وفي قبضة يده قوة، إلا في المرة الأخيرة في المقهي عندما التقينا ورأيت التعب والأرهاق والموت يطل من جسده. لم تحدثني يومها كعادتك عن لقاءاتك مع اصدقائك الداخلين في التسعينييات من العمر من اساطين المحامين والاقتصاديين والدبلوماسيين المتقاعدين. كنت ممروراً لسبب ما ولكنك لم تتحدث عن أي مرارة. كلنا سنموت ولكني غاضب منك قليلاً يا أحمد، هل كان لك ان تهتم بصحتك قليلاً فتعيش اكثر من أجلنا. قلت في شعرك انك "مسموم المعدة والكبد" بيد أنك رفضت الطب والاطباء، رفضت التداوي والعلاج وواصلت السير يوماً بعد يوم. طبعا نحن اصدقاؤك انانيون ولم يكن أي منا يفكر طوال الوقت كيف كانت لديك القدرة علي التماسك مع انهيار معظم ما حولك ومع الرحيل الفادح والمتتالي لاصدقائك في السنوات الخمس الأخيرة. كانت اعضاؤك تترنح من المرض ولكنك ظللت واقفاً وساعة غبت عن وعيك كانت ساعة الرحيل. لم يتاجر أحمد بعذاباته، لم يبتذل أبداً معاناته النفسية كفنان ورسام كف معظم بصره فلم يعد يري الالوان واختلطت عليه الأشكال، ورغم انه توقف عن العمل باي سياسة منذ اعوام طويلة فلم يعبر الي معسكر سياسي آخر او يقايض كناشط سياسي رأي اليسار المصري الذي افني فيه شبابه يتكلس ويتواري، ولم يقبل تعويضا مالياً عن امتهان جسده وتعذيبه بشراسة علي يد زبانية السادات في السبعينيات. ولكنه في الاعوام القليلة الماضية كان يخبو مع رحيل كل صديق وصار الفقد ينهشه من كل اتجاه، حتي انتصر جسده المتعب علي روحه المحلقة وجذبها معه إلي طريق الرحيل. "ماذا تبقي .. رفيق رأيته يبتني ضريحاً في حديقة المقهي وامراة تخيط من أعلامنا قميصاً صيفياً أما الذي كان يقرأ علينا كتاب التعاليم فقد رأيته في صالة الديسكو مرحاً كطفل." لم يكن أحمد يفقد الاصدقاء للموت ولكن للتحول والتبدل الذي ضرب عديدا منهم كما كتب في هذه القصيدة. كان شخصية درامية ولكنه رفض السقوط مثلما اضطر اخرون، اما بالسقوط لحتفهم 1انتحاراً، او بالسقوط النفسي اكتئاباً او السياسي تبدلاً وتحولاً. كان هو ومحمد عودة، غاندي الناصريين واليساريين، شاهداً علي قدرة الانسان علي تجاوز المحن واعادة خلق وترتيب ما يستطيع الإبقاء عليه من عالمه ومن اصدقائه ومن احلامه .. ومواصلة السير. كان يسير في شوارع القاهرة المحطمة، وهو لا يري جيداً، فيتعثر ويقع فيقوم ويمشي فيصطدم بحجر ويسير فتزل قدمه في حفرة فينتشلها وينفض التراب عنه ويرفع رأسه فيري التشويه البصري الناتج عن الفساد المتسرب إلي كل زاوية في بلادنا، وما زال، فيترنم ببيت شعر للمتنبي او لعاشق جاهلي قديم من مئات بل آلاف الابيات التي كان يحفظها، أو آية من القرآن الذي استظهره صغيراً او يحكي لمرافقه عن طرفة من العصر العباسي او من سجن القلعة، او عن ليلة الخمر المغشوشة التي افقدته البصر في اواخر الثمانينيات، او عن اليساريين المتحولين أو عن ليالي الانشاد الديني الصوفي في الاضرحة المملوكية في قلب المقابر المطلة علي طريق صلاح سالم، او عن لقائه الاخير بالشيخ ابو العينين شعيشع الذي كان يرتل وقد شارف علي التسعين. جعبة أحمد لا تفرغ من الحكايات التي كان يرويها ببراعة لا متناهية والتي كانت تريك عالماً لم تكن تعرفه. لم يكن يهرب من الواقع ولكنه كان يواجهه بطريقته الفذة. صحيح انه توقف عن الكتابة الشعرية منذ نهاية التسعينيات تقريباً وتوقف عن الكتابة الصحفية المنتظمة منذ عدة سنوات ولكنه لم يتوقف عن الشغف بالحياة والسخرية منها. والآن وصل الجسد المرهق من السير اذن الي محطته الأخيرة ونامت الروح القلقة. المثل المصري الشائع يقول ان من انجب لم يمت، "اللي خلف ما ماتش"، ويا احمد اقول لك ان من ترك اصدقاء تأثروا به مثلما فعلت أنت، أحبهم، واحبوه، لا يموت لأنه يترك جزءا منه في اصدقائه. يا من لا تدل عليك شواهدك لأنك كنت تمر علي اطراف الوقت، وتقف في الكواليس، ولا تزاحم الأخرين فلا تترك خلفك أثراً سوي في القلب، قلبي وقلب من عرفوك، ستمر منا بعض شواهدك إلي أبناء واصدقاء واحفاد. ستظل حياً فينا وفيهم، ليس برسومك واشعارك وهي تستحق، وليس بافكارك ونضالك السياسي والمهني في السبعينيات والثمانينيات وهو مهم، ولكن برقتك وطيبتك ووداعتك وسخريتك وكرمك بوقتك ومالك (حتي لو كنت مفلساً وما معك هو اخر عشرة جنيهات) وحبك للحياة والمتع الصغيرة (والكبيرة ان استطعت): بريق عينيك عندما تعبر فتاة جميلة أمامك، ديوان شعر جديد تطربك منه قصيدة، أو فنجان قهوة اكسبريسو مصنوع بمهارة . ستظل حيا فينا يا أحمد بهذا كله. واللي صاحب ما ماتش.