يشكّل الزمن عنصراً هامّاً في ديوان »بطاقة لشخصين« للشاعر اللبنانيّ عبّاس بيضون، الذي لا يلتزم بالتعقيد الذي لازم القصيدة ردحاً من الزمن، لا يفصلها عن زمانها ومكانها، بل تكون ابنة اللحظة، وفي اللحظة نفسها، منفلتة من عقال اللحظة، تتمتّع بامتداديّة تمنحها التجاوز، ولا تقيّدها بزمان أو مكان ، وهو في تناوله لموضوعة الزمن، يختلف عمّن استلهموا موضوعاتهم من الزمن، يجيّر نسبيّته ليبدع رؤي شاعريّة، يتمرّد علي رتابته، ليغدو للقصيدة زمنها الخاصّ بها، الزمن الشاعريّ الخارج عن سيطرة الزمن، الزمن المتمرّد حيث تتجدّد حيَوات، تندمج مع بعضها، يلتفّ علي نفسه، يتقهقر، يهرب إلي المستقبل، يلوذ بالماضي، ينسكن بالحاضر، يُشعّبه إلي أزمان، وكلّ واحد بدوره ينقسم علي نفسه لينتج مصائر يكون هو نقطة انطلاقتها ونهايتها معاً، يتحوّل الزمن، كأيّ مادّة متحوّلة، يتلاعب به الشاعر، كأنّما ليمارس نوعاً من الاقتصاص منه، يحاول التغيير في طبيعته التي تقتضي وتفترض أن يقتصّ من كلّ شيء، والإنسان قبل كلّ شيء.. يمضي قطار الزمن في طريقه، حيث الكثير من الأصدقاء غابوا وارتحلوا.. والزمن يتمتّع بصفات مُؤَنسنة، يلبّسها له الإنسان انطلاقاً من رؤيته الخاصّة، فهو موصوف بالغدّار، المداوي، الذي لا يرحم.. إلي آخر تلك التوصيفات التي تصِم الزمن، وتشِمه، وتضفي عليه ما يفكّر فيه الإنسان.. الزمن مع بيضون في »بطاقة لشخصين«، شاعريّ، غير خاضع لقوانين شائعة، إذ نجد في قصيدته »الحَبْل« أنّ الحياة تغدو حبلاً، أو حبلاً موصلاً ومرتبطاً بحبل آخر، وأنّ الشيخوخة كذبة علي الموت، «الشيخوخة كذبة علي الموت/ الذي لن يجد في انتظاره/ سوي الجدار...» ص8، «الشيخوخة كذبة علي الموت/ والذين يتظاهرون بالسنّ يعرفون/ أنّ الحياة لم تعد حَبْلاً/ وأنّهم بها أو بدونها/ يستطيعون أن يتابعوا...». ص9. ثمّ في قصيدة »بوذا« نجد أنّ عمر الشابّ يكون مئة عام.. لكنّه شابّ مختلف، يتجاوز كلّ التجارب بدون أن يعيشها، ليكون من الأشياء نصفها، »الشباب الذي يدوم طويلاً/ هو نصف السلطة/ نصف الموهبة/ النصف الذي يحزّ علي الإصبع/ وأحياناً علي العنق/ وهو أحياناً نصف الوجه المقلوب/ الذي لا يمكن أن يكون/ لأخناتون/ أو بوذا/ منصّبين علي المكتب». ص18. ثمّ يمتدّ الشباب ذاك إلي قصيدة لاحقة يعنونها بعنوان »شاب عمره مئة عام«، حيث اللحظة تكون بمثابة عمر كامل، يقول في مستهلّها: «شاب عمره مئة عام يصل مسرعاً للغاية، لكي لا يفوته شيء هذه المرّة ممّا حدث من زمن لا يذكره، لكنّه لا يجد أحداً/ لابدّ أنّه أخطأ المكان، لكن الصورة التي لا تدلّ علي شيء، إذا لم تكن له فلابدّ أنّه صار كذلك/ صار كذلك لأنّنا جميعاً لم نكن أوفياء له وتركناه يهمل نفسه ويهملنا/ لابدّ أنّنا تأخّرنا هذه المرّة أيضاً فهنا يقاس الوقت بالسنوات وكلّ لحظة تأخير لن تكون أقلّ من عمر كامل». لكنّه يتنبّه إلي الالتباس الذي قد يقع فيه القارئ، وهو يتنقّل في الزمن، يستدرك سارداً العبرة المطلقة، ومعقّباً بنظرة مستقبليّة، شاعريّة، لا تخلو من جنون الشعراء وحكمتهم في الوقت نفسه: «شاب في عمر المئة. قد لا يكون هناك شباب علي الإطلاق. ففي تاريخ ما، لن يعود هناك أيّ تقدّم. ليس أكثر من إعادة نظر وتعديلات لتقديم وثائق غير نهائيّة. وربّما هو شباب يقسو ويستعصي ويجفّ علي طول ألف عام». ص28. بعدها كأنّما تأتي خلاصة الخلاصات في ختام قصيدته »خلاصات«، التي تختصر العِبرة من الحياة التي لابدّ من نقطة توضَع في السطر الأخير منها، من دون أن يذرف دمعة، من دون بكاء ولا تباكٍ ولا استبكاء: «كبر اللاعبون/ ومن الأفضل تسليم الدمي/ للأبديّة». ص25. أمّا كيف يتبدّي تأثير الزمن علي البشر هنا وهناك وفي كلّ مكان، نقرأ الشاعر منذ البداية، وهو يعنون مجموعته »بطاقة لشخصين«، مرتحلاً بين السطور، وما تختزنه، وما تشي وما تفشي به، فمعلوم وشائع أنّ البطاقة الواحدة تكون لشخصٍ واحد، أمّا أن تكون البطاقة لشخصين فهذا غير وارد، إلّا إذا كان هناك ما قد يبرّر، والتبرير هنا شاعريّ، فشخص حيّ حاضر، وآخر غائب، مغيّب، لكنّه مستحضر، أحدهما جسد، وآخر روح، يتكاملان ليشكّلا نموذجاً فريداً، يشتركان في بطاقة واحدة، ذات منقسمة علي نفسها، منشطرة قسمين، أو ربّما تلاقٍ للحبيبين، الصديقين، المتكاملين، «يسلّموننا أرقاماً متسلسلة، البطاقة لشخصين ومعها يمكن أن نستدعي شخصاً واحداً، سيكون في الغالب مفقوداً، والشخصان اللذان تربطهما بطاقة واحدة، يكملان رحلتهما معاً، مع اشتداد الحاجة إلي معين، هو الموت غالباً: «الأرواح أيضاً قابلة للتكسّر أو أنّها تشف في الزجاج، ويمكن، بلا خوف، أن نرحل سويّة في الجوّ المبلّل نفسه./ البلل يسوقها إلي المحطّات، وببطاقة لشخصين يمكن ان نستدعي واحداً/ سيكلّف هذه أكثر من خاطرة./ سيتطلّب رقماً متسلسلاً وتذكرة فالمراقبون يعرفون، أنه لابدّ من ميت، ليساعدنا علي اجتياز هذه المنطقة الخالية من الريح. لابدّ منه لنستطيع القفز معاً إلي البعد الواحد والرجوع بعد لحظة اختفاء كاملة.» ص13. وتلك البطاقة التي تجمع شخصين، بروحيهما معاً، أو بالروح والجسد، تتطّور، لتتحوّل إلي حلم يجمع بين اثنين، عندما يحلمان الحلم ذاته، هو أيضاً حلم خارج عن مألوف الأحلام، لكنّه في صفّ البطاقة التي تتجاوز مفعولها، ليكون الحلم أيضاً متجاوزاً دوره، ليعيد الاتّصال مع الموتي، حيث الموت يشطر القلب شطرين، أحدهما ينبض، بينما الآخر يرتاح، ينتظر التوحّد مع شطره الآخر، في بطاقة أو حلم، ليكمل معه الرحلة أيّاً تكن، يخلخل عبرها الشاعر التراكيب، فتتخلخل المفاهيم وتتشعّب، يقول في قصيدة »حلم اثنين«: »اثنان يريان الحلم نفسه/ ولا يهمّ/ أنّ الثاني كان ميتاً/ فالحلم ممّا يراه الموتي مجرّد سكتة الكتاب: بطاقة لشخصين المؤلف: عباس بيضون الناشر: الساقي