منذ 17 فبراير إلي لحظتنا هذه، حدثت تقلبات عديدة، حوّلت النصيحة الأبوية المقنّعة بالحنان إلي إصبع مهدِد متوعد، وحوّلت المجلس بالنسبة لكثيرين - إلي تابو لا يجوز الاقتراب منه أو التعليق عليه. في رسالته الأولي عبر صفحته الرسمية علي موقع الفيسبوك، يوم 17 فبراير الماضي، نصح المجلس الأعلي للقوات المسلحة المتظاهرين بعدم ارتداء الزي الأسود خلال التظاهر! هذه النصيحة العابرة، بدت وقتها، غريبة وخارجة عن السياق بل ومضحكة.. ففي ظل الاحتفالات باسقاط مبارك والاستعداد لمليونية 18 فبراير المبتهجة، جاءت رسالة المجلس الأولي لتخبرنا، ضمن أشياء أخري، أن "حرية التظاهر حق مكفول للجميع دون اللجوء لثقافات غير مصرية لم تولد علي أرض مصر مثل ارتداء الزي الأسود خلال التظاهر"! ولمّا لم يكن للزي الأسود من دور بارز خلال الثورة، ولمّا كنا ثملين بالنجاح السريع في القضاء علي رأس النظام، ومتأثرين بالتحية العسكرية التي أداها اللواء محسن الفنجري للشهداء قبلها بأيام، لم ينتبه معظمنا إلي التحذير "العطوف" من "مخاطر" اللون الأسود. قرأت الجملة، وقتها ضاحكةً، وتتالت علي رأسي صور آباء "طيبين" يربطون الأردية السوداء بثقافة ويخافون منها. "شباب يرتدون الأسود، هم مصدر خطر ولا شك". هكذا يقول بعض الآباء لأنفسهم وهم يستحضرون أفكاراً نمطية مكرورة عن "الإيموز" وعبدة الشيطان وموسيقي "الهارد روك" و"الهيفي ميتال"، وثقافة كاملة يرون فيها تهديداً مباشراً لهم ولما ألفوه واعتادوا عليه. لكن لماذا تذّكر العسكر هذا اللون "الشرير" مع أنه لم يكن مسيطراً بشكل خاص خلال الفترة من 25 يناير إلي 11 فبراير؟! عندما أعيد قراءة هذه الرسالة الآن، بأثر رجعي، لا أجد إلاّ احتمالاً واحداً. هو أنهم يخاطبون، من بين كل الثوّار، أعضاء حركة 6 أبريل وصفحة "كلنا خالد سعيد" علي وجه التحديد. فالدعوات لإضراب 6 أبريل 2008 طلبت من المواطنين البقاء في بيوتهم، ومن يضطر للخروج، عليه ارتداء اللون الأسود، وهو ما حدث بالفعل. في هذا اليوم كانت الشوارع شبه خاوية، وكثير ممن ذهبوا لأعمالهم اضطراراً حرصوا علي ارتداء ملابس سوداء. بعدها شاع ارتداء اللون الأسود في الوقفات الاحتجاجية الصامتة حداداً علي مقتل خالد سعيد وكل ضحايا التعذيب في مصر. لكن بعيداً عمّا إذا كان من كتب هذه النصيحة يربطها بالفعل بالحركات الاحتجاجية السابقة علي الثورة أم لا، فالمؤكد أنها كانت الإشارة الأولي لوصاية أبوية حرص عليها المجلس الأعلي للقوات المسلحة في تعامله مع الثوّار والمدنيين بشكل عام.. وصاية أتاحت له أن تأخذ سياساته في أحيان كثيرة صورة قرارات فوقية ذات اتجاه واحد. منذ 17 فبراير إلي لحظتنا هذه، حدثت تقلبات عديدة، حوّلت النصيحة الأبوية المقنّعة بالحنان إلي إصبع مهدِد متوعد، وحوّلت المجلس بالنسبة لكثيرين - إلي تابو لا يجوز الاقتراب منه أو التعليق عليه. لكن تبقي حقيقة واحدة هي أن ما حدث ثورة شعبية عظيمة، أطلقت روحاً من المستحيل قهرها. ثورة لن يقبل من قاموا بها الرجوع بالزمن إلي الخلف. [email protected]