كان شيخي مولعا بضرب الأمثلة و الأحاجي، و يطيب له كثيرا أن يضللني، يقول أول بوابات الاختبار الملاحظة، و الدقة المتناهية في الكشف عن الخبئ، و ضرب لي مثلا فقال علي سبيل المجاز: العين بوابة الروح، و أيضا مرآة الجسد. و لما لم أحر جوابا، أو أنطق بكلمة، تحرزا من شباك يخيطها ليوقعني في أحابيلها، ابتسم و قال: كل الرغائب تبدأ من عندها، لكن تنبه أيها الغافل، فعند لحظة الفعل ستغمض جفونها، متبرئة منك، تاركة الأمر تحت رحمة الجنون. و صمت قليلا قبل أن يستدرك: الحواس الأخري بوابات بصفات أخري، لكن الأكثر مراوغة هي العين؛ ثم اوقفني قدام المدينة و جلس هو فوق ربوة عالية مشرفا علي الطريق الذي يقود نحو الأبواب المتشابهة، يتشعب الطريق تحت قدميه، و ينقسم بقدر عدد الأبواب، و هو واقف عند أصل الطريق، لا يمكن العبور إلا من خلاله: سبعة طرق، تنتهي بسبعة أبواب متطابقة، نفس الحجم و اللون و الزخرفة و المتراس. ستة منها زائفة، و واحد هو المقصود، و الذي من خلاله يمكن المرور للمدينة العامرة. أقف بحيرتي و قلقي مواجهاً الطرق الزائفة، و بسمة شيخي، أحاول الاقتراب من الأبواب أتفحصها جيداً، محاولاً معرفة أين يكمن الزيف؟ في مرات كثيرة أخطئ و أختار الطريق الزائف، فتكون النتيجة مروعة، أظل أدور في فلك المتاهة التي كشف لي الباب عنها، دون أن يسمح لي بدخول المدينة، فقط ألف و أدور و أنا أتلقي الضربات و الكلمات الجارحة و الهازئة، و الأقسي من ذلك نظرة شيخي الصامتة، و التي أري فيها تحسره علي تعليمه لي، و الذي أضعته هباءً مندفعا وراء رغبة غير الرغبة الحقيقية في الدخول للمدينة و التعرف عليها بحق و متعة نادرة، يمكن أحكي كثيرا عن المدن التي نجحت في الدخول إليها، لكن المقام الآن يقع تحت أسوار المدينة، في السفح، حيث الطرق المتشابهة و التي تقود بدورها لأبواب متطابقة، و لا مجال للخطأ أمامي، و إلا تعرضت للطرد و القطع، و إعادة المحاولة، و هو ما يكلف روحي الضعيفة الكثير، فتضعف قواي، و تفتر همتي، مما يدفعني في كثير من الأحيان للعودة خائباً نحو دياري، و أنا أتخايل فقر روحها و عدم جدارتها بالإقامة فيها، لحظتها يغدو العذاب مضاعفا، و مهما كانت قوة النسيان، إلا أن الحنين و الرغبة في المغامرة تجعلاني معلقاً علي الأعراف، الحدود، لا أنا هنا، و لا أنا هناك، يارحمة الجنون، هل يمكن تحمل هذا العذاب؟ في بداية مصاحبتي للشيخي أوصاني بالصبر و طول البال، و عدم التعجل، و الوضوح و الدقة، و أن أستمع كثيرأ لصوت المدينة التي أرغب الولوج إليها، أقترب منها، كي أتعرف علي روحها، عمقها، و ألا أقع تحت سطوة بهرجتها و مفاتنها المغوية، قال: للمدن غوايات، و ألاعيب تجريها علي من يرغبون الدخول، تختبر قوة أرواحهم و جدارتهم بأن تسمح لهم بالدخول. و أضاف بأسي: الكثيرون يقعون تحت ظلال بهرجتها، فتتركهم في ألوانها يعمهون، و فيما حسبوه جوهرها يختلفون، و هي منصرفة عنهم تحيط روحها بصدفة صلبة لا يمكن لهم النفاذ منها. يساعدني المشي الكثير علي تصفية أفكاري، و محاولة عزل الأبوب الزائفة، في تلك الفترة أكون موجودا في السفح، تحت أسوار المدينة، و غير موجود أيضا، فالكثيرون الذين يرونني في تلك اللحظات، يقسمون أنهم توقفوا لإلقاء التحية، أو الاطمئنان علي الأحوال، أو الاستفسار عن شيء ما، لكني أعبرهم دون أن أعيرهم أي انتباه، يتحدثون بغضب لي أو لمن يحكون لهم، و كيف أني صرت متكبرا، مادمت موعود بدخول المدنية، و أنا علي الجانب الأخر أقسم بأني لم أرهم، الآن لا أجادل، و أدخل في حوار عقيم، فقد عرفت من شيخي مؤخراً، أنه عندما أسير متفكراً في الطرق الضالة التي تقود إلي الطرف الثاني من المدينة، خرابها و ألوانها و بهرجتها، كي أتفادي كل هذا، لا يبقي في ادراكي سوي المدينة بروحها الصافية، فلا يدخل من يمر أمامي بحيز ادركي، قال: ما هو موجود أمامهم جسدك فقط، أما روحك و عقلك تحاول التواصل مع روح المدينة، و محاولة التقاط الذبذبات الدقيقة التي لن يشعر بها سواك. أبواب تتكشف عن الحسد و الضغينة و الرغبة الجارحة في الانتقام، و أبواب تسيطر عليها الغريزة و القسوة، و يبقي باب واحد و الذي يملك كل تلك الخصال الرذيلة إلا أنه يصفيها و يضعها في سياقها المحدد، بعيداً عن الفجاجة و المظهرية، الكل مندغم في وحدة تكشف عن جوهر المدينة، في تجلياتها المتعددة: فجورها و تقواها، صدقها و كذبها، شجاعتها و تخاذلها، لهوها و تأملها، أحزانها و قوة أفراحها، شياطينها و ملائكتها، أمراضها و قوة يقينها، بنات حورها وأولادها المخلدون. يقول شيخي: في البداية كانت المدن، و لحماية أسرارها من الانتهاك، بنيت المحارة، أقصد الأسوار، و زودت الأسوار بالأبواب المتشابهة، لمنع كل من هب و دب بالتجول داخل أروقتها، اذهب لأبوابها و تحدث إليها و استمع منها، منها كلها، دون أن تستثني واحداً، فقط كن حريصاً علي كشف الخداع و الشراك الوهمية، فإن تلك الأبواب تكون أكثر مهارة في الإقناع و التأثير. و سألني سؤالاً و لم يتنظر إجابتي عليه، قال: من يحمي روحك من التردي في المتاهة؟ و أكمل: أمامك المدينة بأبوابها المدهشة و المتطابقة، فاذهب إليها و تعرف علي ذاتك. و فارقني فبل أن أرد ، وحيداً أواجه مدينتي بكل أبوابها الملغزة. فقط ما أحتاجه هو الوقت و صفاء الذهن و الروح لالتقاط النغمة الصحيحة لترقص روحي معانقة روح المدينة، لأضع قدمي علي الطريق الذي يقودني نحو الباب الوحيد الذي سيدخلني لعمق المدينة.