لأكثر من عشر سنوات لم تكتب نورا أمين الرواية. في العام 2003 نشرت مجموعة قصصية بعنوان "النصف الثالث"، ولم تنل حظها من الاهتمام، كما تقول هي، بسبب كونها خارج مصر وقتها. الآن تعود صاحبة "قميص وردي فارغ" إلي القراء برواية جديدة بعنوان "قبل الموت" صدرت عن دار ميريت للنشر. أين كانت؟ وما الذي تغير منذ عشر سنوات وحتي الآن؟ ما مشاعرها الآن بينما مفاهيم التسعينيات، مثل "كتابة الجسد" و"التفاصيل اليومية"، تحل محلها مفاهيم أخري، مثل "البيست سيلر" و"الكوميكس"، "السيت كوم" و"حفلات التوقيع" وبالمناسبة ، فلقد أقيم أول أمس الجمعة حفل توقيع لروايتها بمكتبة » ديوان « بالزمالك. جزء من غياب نورا هو غياب بدني، عاشت بالخارج لفترة فكتبت شعراً بالإنجليزية، كتبت 24 قصيدة حاولت جمعها في كتاب ولم تنجح حتي الآن. أقامت قراءات شعرية في أمريكا وألمانيا وغيرها: "كنت أضع نفسي علي خريطة العالم الأكبر، خارج مصر، ولكن لا أحد يمكنه التواجد في جميع الأماكن، والنتيجة أنك تفقد مكانك الأصلي ولا تنجح في التواجد بجميع الأماكن الجديدة." عملت نورا بالمسرح أيضا، ممثلة ومخرجة، وعرفها جمهور آخر: "كان يصل الأمر بأحدهم أن يخبرني أن هناك كاتبة أخري تحمل نفس اسمي _ نورا أمين، وكنت أضحك." أعدت أيضاً كتابا عن المسرح وحقوق الإنسان عام 2003 وكتاب عن استخدام المسرح لدمج الناجيات من الحروب الأهلية في السودان: "ذهبت إلي السودان، وعملت مع النساء اللائي مررن بالحروب الأهلية فعلاً، كنت أريد منهم أن يحكين قصصهن مرة أخري، جزء من هذه العملية كان نفسياً. القصص كانت مكتومة في صدورهن ولم يبحن بها لأحد، لهذا تحولت مع الوقت إلي ما يشبه الإحساس بالذنب لديهن، برغم أنهن كن الضحايا. والهدف كان مساعدة هؤلاء النساء وإعادة دمجهن في المجتمع." بدأت نورا العمل علي الرواية الحالية عام 2006 وانتهت من كتابتها في العام 2007. ولم تنشر لأسباب مختلفة، وأحبطت هي حتي لقائها بالروائي محمد البساطي الذي التقته أثناء حفل توزيع جوائز ساويرس التي كانت تقوم بالتحكيم فيها. سألها: "انتي مابتكتبيش ليه يا نورا؟" حكت له عن روايتها فحدث الناشر محمد هاشم في نفس اللحظة عنها وتحمس الأخير لها: "تحمست. فكرت ساعتها أنه لولا الكتابة لما كنت في هذا المكان. لديّ القناعة بأن الكاتب يظل طول عمره كاتباً، حتي لو توقف لفترة عن النشر، سيظل ما نشره مسبقا يضعه في خانة الكاتب، وهناك كتابة تحدث باستمرار في عقله أيضاً." كما هو مكتوب بنهاية "قٌبل الموت"، فهذا العمل يمكنه أن يقرأ باعتباره استكمالا ل"قميص وردي فارغ"، كأنه يُُظهر للعلن أفكاراً كانت مكتومة في قميص وردي. لدي نشر العمل الأخير تخوفت نورا قليلاً: "شعرت به قديماً قليلاً. كأن شخصاً ما جاء من الماضي ليحكي حكايته، هو بعيد بعض الشيء عن الأعمال المنشورة الآن." كيف؟ "الرواية قديمة لأنني لم أكتبها الآن، ولا حتي من سنة. أنا أنهيتها عام 2007. وهي قديمة لأنها أخذت روح "قميص وردي فارغ". ولأنها تحاول بناء عالمها من خلال هلاوس الشخصيات، وبالتالي فهي مفصولة عن كل مظاهر العالم الخارجي ولا تحوي أية إشارات مرتبطة بالزمن واللحظة الراهنة، ولأن الآن هناك "حدوتة" في الكتابة السائدة، وهي بعيدة تماماً عن "جو الحدوتة". هناك حالة شعرية في الرواية، هناك أنا بصوتي." ولكن صوت نورا هذا ليس موحداً، هي نفسها تلاحظ عدة مناطق مختلفة تكتب فيها. تقول: "أنا لا أعرف إلي أين سأذهب في كتابتي. وبالتأكيد أن كتابتي في حد ذاتها متغيرة، هناك نوع آخر من الكتابة جربته في رواية "الوفاة الثانية لرجل الساعات"، العائلة المصرية المتوسطة بتفاصيلها اليومية. ولكنني لن أغير كتابتي هنا، في "قميص وردي" و"قبل الموت"، إلا باكتمال التجربة، تجربة تحليل الجسد وإعادة قراءة الماضي وتفتيت الذات ومحاولة لمّها والتصالح معها." تتحدث نورا عن تجربة كتابة "قبل الموت". غيرت هذه الرواية، بتقاطعاتها الحتمية مع سيرتها الذاتية، كما تقول، في حياتها، والمثال لديها هو مثال مادي تماماً، فأصعب الأجزاء أثناء الكتابة كانت الفقرات المكتوبة عن حركات بسيطة تقوم بها المشلولة. "كان لابد لهذه الفقرات أن تكتب ككتل كاملة وطويلة، وعندما كنت أنتهي من كتابة حركة بعينها كنت أشعر بوجع في ظهري، الكتابة تحتاج إلي المرور بالفعل الجسماني نفسه، لكي ترصده وتعيد كتابته، وفي النهاية بالتأكيد لم أكن لأستطيع كتابة هذه الفقرات لولا أنني مررت بالتجربتين فعلا، تجربة الرقص والشلل." سأسألك سؤالاً يبدو غريبا، ما علاقة هذه الكتابة بفكرة التشويق، كيف تنظرين لهذا المفهوم في كتابتك؟ (تفكر طويلا)، لا أعرف بالضبط، ولكن مفهومي عن الكتابة أنها شيء تتمكن به من اختراق الداخل، بحيث تعيش مع داخلك وتبني لحظات حميمية معه، وتترك الخارج بكل عواصفه. وهذا لا يرتبط بالتشويق بشكل مباشر. ولكن لديّ مثلاً لحظة ذروة في الرواية، عندما تقابل واحدة من المرأتين الأخري ويحدث مشهد حب بينهما، ثم أقوم بإدخال المرأة الثالثة عليهما. منذ بداية الكتابة في هذه الرواية وأنا أفكر في هذا المشهد. هذه لحظة ذروة بمعني أن القارئ يكمل بعدها القراءة بمفهوم جديد عن العمل، أما أقصي نجاح أتمناه فهو عندما يضطر لإعادة قراءة العمل من البداية لدي وصوله لهذا المشهد." جزء من الرواية مكتوب في برلين بألمانيا، تنظر نورا لهذه الأجزاء باعتبارها محاولة لممارسة هويتها داخل ثقافة مختلفة تماما، تكتب بالعربية الفصحي داخل لغة عجيبة لا تعرفها: "كنت أعيد صياغة هويتي وأنا علي البر الآخر، لست منغمسة في الطين، وإنما أنظر للطين وأتأمله." ربما هذا مثلا ما دفعها لكتابة فقرة في الرواية مثل: "اللحظة التي ندرك فيها قدرة الحلم علي دفعنا نحو المستقبل، هي اللحظة نفسها التي نقترب فيها من السعادة، من الارتفاع عن الواقع، والتقدم الفعلي. ربما أن ذلك يفسر كيف أن امرأة ورجلاً مصريين _ بل أن انتماءهما لهذه الهوية يزداد كلما سافرا _ يمكنهما أن يشعرا أنهما امتلكا برلين." في الرواية تخبر واحدة من النساء البطلة بأن جسدها هو مفتاح حريتها، فترد عليها البطلة بأنه هو بالضبط العائق أمام حريتها، هو ما ينبغي التخلص منه للوصول إلي المعرفة الحقيقية. أسألها عن الجنس هل تسعي للوصول إلي هوية خاصة بكل جنس في كتابتها. فترد بأن العكس هو الصحيح: "هناك هوية ما محايدة. هناك الإنسان. وهناك الذكر والأنثي بداخل كل منا. يشغلني في الكتابة أن أنقل هذين العنصرين اللذين بداخلنا جميعا. وعندما أكتب مشهد حب، مثل المشهد بين المومس والمرأة المشلولة في الرواية، فأنا لا أصوره كمشهد سحاقي، وإنما له دلالات روحية وإنسانية، فكرة كيف أن الإنسان المتفتت يعود للاكتمال والتوحد بذاته مرة أخري." فكرة الاكتمال، أليست فكرة رومانسية؟ "أنا أؤمن بفكرة الاكتمال والتوحد. جزء من أزمتي مثلا أنني أصدق أن المسرح سوف يقوم بتغيير المجتمع، وأصدق هذه الأفكار عن العلاقة بين الفن والمجتمع، وهذا نجحت فيه في الورشة التي قمت بها بالسودان، وبرغم هذا فأنا أعرف أنها رؤية غير عملية وغير مناسبة للسوق الآن." بالعكس. أعتقد أنها رؤية مناسبة للسوق جدا، فكرة الانعزال التي طُرحت في التسعينيات هي التي تبدو غريبة الآن. الآن الحديث تزايد عن الكتابة المقروءة التي تلتحم بالجماهير وتغيرهم. "ربما. لا أختلف مع هذه الأفكار. مشكلتي معها أنها ليست حقيقية لدي من يدعونها. ليست نابعة من داخلهم. الآن مثلا أصبح هناك نظام شكلاني يحكم شخصية الكاتب وعلاقاته، وشكل لطريقة كلامه ولطريقة توقيعه، ولصورته ككاتب معارض مثلا، أصبح هناك تقسيم مثلا بين إذا ما كنت ستقيم حفل توقيعك في مكتبة ما أو أخري. كل هذه أطر تم إسقاطها علينا. أنا أشعر بغربة مع كل هذه الأشياء. تعرف. كنت أتمني لو اتسع سوق القراءة واستفاد الكاتب منه. ولكن هذا لم يحدث. ما حدث هو أن سوق القراءة اتسع وظهر كتاب آخرون ملائمون له، أما الكتاب الحقيقيون فقد ظلوا منزوين."