في العاشرة مساءً هبطت درجات السلم مسرعاً وقلت لسائق التاكسي : فلنتجول بعض الوقت في شوارع القاهرة دونما هدف محدد !! كانت الليلة الأخيرة قبل إقلاعي في الصباح إلي هناك أملاً في حياة أفضل ودون أن أعرف السبب بدت لي القاهرة من خلف نافذة التاكسي وكأنني أراها للمرة الأولي حيث تراءت أمامي في الليل بكامل سحرها وفتنتها لكن صمتاًً مطبقاً هبط علي أنا وزوجتي لم نستطع الفكاك أو التخلص منه للإجابة علي أسئلة السائق الذي راح يلعق شفتيه ولسان حاله يقول : ربنا يشفي!! تساءلت بيني وبين نفسي : هل توجد في الدنيا كلها مدينة أجمل وأطيب من القاهرة رغم كل شيء ؟ وهل ثمة بلد في العالم يفوق مصر في سحرها ودهشتها وجنونها ؟ إنها جميلة الجميلات رغم كل شيء وأي شيء . لكنني خفت أن أبوح بتساؤلاتي تلك لسائق التاكسي لأنني كنت متيقناً بأنه سيلعن القاهرة والزحام والتلوث والميكانيكي الذي ضحك عليه ولن تنفع كل المحاولات في إيقافه حتي يصل إلي الغلاء وسب مصر بأفظع الشتائم كما يحلو لنا كثيرا أن نلعنها دون أن نسمح لغيرنا أن يفعل ذلك . هل هو الحب الذي تحار في تفسيره العقول ؟ أم أنها ورطة شديدة أصبح الفكاك منها متعذرا بعض الشيء وربما متعذرا تماماً ؟ قالت زوجتي بأسي : غداً صباحاً ستقلع الطائرة !! استدارت بوجهها ثم انتفضت كالقطة وأضافت : ليس أمامنا من حل آخر .. يجب أن يكون لنا بيت مثل بقية خلق الله ولنقل وداعاً لتلك الساعات الطويلة بطول النهر التي كنت أتأمل فيها تلك الشقوق في قدميك وآلاف الأميال عبر الشوارع والحارات الضيقة وصخب الفنادق الرخيصة والبنسيونات ، ساعات طويلة لم ألمح خلالها سوي السياط والدموع وهي تتسرب من زوايا الشقوق حتي أرهقتني تلك الساعات الطويلة وأصابني ذلك التأمل العميق بنوع غريب من اليأس فسئمتك ومللت الشوارع والحارات ، هيا إذن نتوه في شوارع النفط المضاءة . كان سائق التاكسي يعبر كوبري قصر النيل حين صمتتْ قليلاً ثم تنهدتْ وأشارتْ إلي أسفل قائلة : أما زلت تعشق النهر ؟ تخللتْ أصابعي خصلات شعرها الأسود وقلت : وهل نستطيع ألا نفعل ؟؟ ثم همست في أذنها وأضفت : أخشي أن تكون شوارعنا أكثر إضاءة وإنما هي قلوبنا التي ربما لم تعد خضراء ، إن شمسنا الطاهرة حارقة في بعض الأحيان كما أن أرضنا الطيبة لا تحتضن الفقراء من أمثالنا في كثير من الأحيان ولكن هل نستطيع ألا نفعل رغم كل شيء ؟ ليتنا نستطيع !! وفي السماء البعيدة تراءت لي من نافذة السيارة سحابة بديعة كأنها إحدي لوحات " فان جوخ " ، كانت السحابة كبيرة وبدت كأنها مكسوة بالحزن والعبودية والوطن ، نظرت إليها في دهشة لكنني شعرت _ فجأة _ بالإجهاد ولم أعد راغبا في متابعتها ثم تحسست أصابع زوجتي في غفلة من السائق وأغمضت عيني هامساً : ليتنا نستطيع ؟! عندئذ تأكد سائق التاكسي من شكوكه وبدا عليه الخوف وهو يقول : هو البيه رايح فين بالضبط ؟ أجبته مطمئناً إياه : فلنعد من حيث أتينا وشكراً لك . كان الليل عذباً ورقيقا وضوء القمر يعكس أشعته البلورية فوق مياه النهر وثمة بسطاء فوق الكوبري يتشوقون لنسمة هواء طرية ، عاجلت زوجتي بنظرة خاطفة فأبصرت وجهاً حزيناً وعينين مشبعتين بالدهشة والتردد فشعرت فجأة برغبة قوية في الغرق وتساءلت بيني وبين نفسي : ماذا لو قفزت من فوق الكوبري خاصة وأنني لا أجيد السباحة ، سيستغرق الأمر كله بضع لحظات قصيرة وينتهي كل شيء . لكنني سرعان ما رفضت الفكرة بشدة ورحت أدون وجه زوجتي في مفكرتي فكان بلون البحر حيناً ولون الشجر حيناً آخر وفي زاوية ما من الوجه أبصرت مزيجاً غريباً من الفرحة والألم وتذكرت بأن أي امرأة في العالم تحلم ببيت خاص بها تقوم هي بإدارة شئونه والاستمتاع بتنظيفه وشم رائحة الطعام المنبعثة من المطبخ الذي هو ملك لها وحدها وعندئذ قلت هامساً لنفسي : إذن فلماذا لا نرحل في الصباح الباكر بصحبة ابنتنا الجميلة إلي هناك لتحقق حلمها وتصبح كبقية النساء ونصبح معاً كبقية خلق الله . قالت لي وكأنها قرأت أفكاري : لقد رحل الجميع إلي هناك ومن لم يرحل بجسده فقد رحل بقلمه وفكره ، لقد شربوا جميعاً من نفس السائل الأسود اللزج القابع في باطن الصحراء ولكن بطرق مختلفة .
وكما يحدث غالباً في حالات السفر فقد فشلت كل محاولات النوم ، قفزت من فوق السرير المتهالك ماركة إيديال وأنا ألعن ذلك الصخب في رأسي ثم تداركت أعضائي ، عينان مليئتان بالتساؤلات ورأس موشك علي الانفجار ثم عضو في المنتصف وقلب لا يمكن رؤيته أو معرفة أخطاره واختناقاته . كانت الغرفة الصفيحية فوق السطوح مسكونة بالأسئلة وخشوع الصمت فسألت زوجتي بعد أن ألقيت نظرة خاطفة إلي الساعة الرخيصة الملقاة علي الأرض : هل هي الرابعة عصراً أم فجراً ؟ هزت رأسها وهي تحبس دموعها وحين راحت تربت بكف يدها فوق جسد ابنتها الهزيل قالت دون أن تجيب علي السؤال: وهل نستطيع ألا نفعل ؟؟! بدأتْ تلملم الملابس والأوراق وتزج بهما داخل الحقيبة وفي الصباح حلَقت الطائرة إلي هناك بعد أن ربطت حزام الأمان وازدحمت برأسي التساؤلات وامتلأ قلبي بالوقت البطيء والنفط والجدارات والخوف الشديد ثم سارعت بتقبيل وجه طفلتي الممتزج بلون السماء والشمس والحقول والقيود لعلي أجد سبباً قويا لذلك الرحيل المفاجيء . امتزجت خيوط الفجر بالسكون وثمة جدارات سميكة وكثيرة استقرت كالرصاصة في منتصف القلب والعقل معاً ، خفت بشدة من الإبحار داخل عيني طفلتي البديعتين تجنباً لمزيد من القتل وفي دائرة السماء الزرقاء بدا السحاب للمرة الأولي كأنما هو نافذة مشتهاة لبدء مسيرة الخروج من دائرة صعبة وشائكة ومليئة بالمنحنيات إلي (هناك) .. ظلت زوجتي تحدق في الفضاء دامعة مبتسمة بينما كنت أفرك أذني وأتثاءب لكن سؤالاً قديماً ومتعسراً ظل يلاحقني علي بعد أميال كثيرة من الأرض : لماذا نشرب جميعاً من ذلك السائل الأسود اللزج القابع في باطن الصحراء العربية ؟؟