لي ليلة فيه وكل جيلنا الشهيد عاش لياليه فالسجن باب، ليس عنه من محيد! والسجن ليس دائما سورا، وبابا من حديد فقد يكون واسعا بلا حدود كالليل.. كالتيه نظل نعدو في فيافيه حتي يصيبنا الهمود؟ وقد يكون السجن جفنا، قاتم الأهداب نرخيه وننطوي تحت الجلود نجتر حلم العمر في صمت، ونخفيه! والساق سجن، حين لا تقوي علي غير القعود يشدها مكانها.. والقلب ترميه مراميه لعالم يعطي المني، ولا يزيد! وأن نعيش دون حب، دون إنسان ودود نغلق أبواب البيوت خلفنا لأن أرضنا لا تضم أهلنا ليست لنا والوجه إن لم يحتفل بنا، بدا مسطحا.. بلا خدود ضاعت معانيه فلم يعد فيه باب يقودنا لدفئه البعيد! من أين آتيه حبي الوحيد من أين أتيه والليل يغلق الحدود! بالواحات الخارجة في الفترة من سنة 2691 إلي سنة 4691 من القرن الماضي. قال آرثر ميلر: ».. إن المسرح هو لقاء الإنسان مع الإنسان..« وقد انطبق هذا القول تماماً في سجن الواحات الخارجة بعد أن خفت وطأة التعذيب وبدأت القيود تخف عنا نحن الشيوعيين بالسجن. فقد التقي الشيوعيون المعتقلون والمسجونون في الواحات بجميع تنظيماتهم، وحتي مع حراسهم ليس فقط في عملية البناء للمسرح بل حتي في عروضه. ففي أواخر سنة 2691 بدأ المهتمون بالفن المسرحي يقدمون لنا المسرحيات العظيمة سواء العالمية أو العربية أو التي ألفها بعض المعتقلين الموهوبين أمثال الأستاذ ألفريد فرج والأستاذ صلاح حافظ وآخرين.. كانوا يقدمون المسرحيات في الممر الضيق بين الزنازين بطول العنبر والذي لا يزيد عرضه عن ثلاثة أو أربعة أمتار، فكنا نحشر فيه بشكل غير مريح.. وهنا فكرت في أن نخرج بمسرحنا إلي المكان الرحب خارج المبني في حوش السجن الواسع والذي سيتسع للمئات بكل راحة.. ولن يكون ذلك متاحا إلا إذا تدرجت مصاطب المتفرجين في الارتفاع فتسهل الرؤية.. وقد استوحيت تلك الفكرة من المسرح الروماني الشهير، وقدرت احتياج التنفيذ لمئات الآلاف من قطع الطوب الذي يمكن صناعته محليا.. وحين عرضت الفكرة علي المعتقلين وجدت حماساً أكثر من المتوقع من الجميع. عملنا حفرة كبيرة وليست عميقة لننقل إليها الطفلة والرمل والماء بنسب معينة من أماكن مختلفة حولنا، وقام بالتطوع للعمل بها عدد كبير حيث كان بعض المعتقلين يعجنون تلك الخامات بأرجلهم، وأخص بالذكر منهم الأستاذ أحمد فؤاد بلبع. وبدأ التنافس في عملية ضرب الطوب بين سكان غرف السجن علي اختلاف تنظيماتهم.. وزاد من التنافس فكرة »مجلة الحائط« التي ابتدعها الفنان حسن فؤاد وصارت تعلق يوميا، فكانت تحمس الجميع وتسخر من الكسالي وتعلق علي مجريات الأمور بطرق مبتكرة منها الزجل والرسم الكاريكاتيري والنكتة، وقد أصدرها بصفة منتظمة يوميا الأساتذة فكري رفاعي وعدلي برسوم.. وأذكر أنها أطلقت شعار: »علينا أن ننهي بناء المسرح قبل يوم المسرح العالمي القادم 72 مارس سنة 3691م«. وقبل أن أنهي الحديث عن عملية بناء المسرح أحب أن أنوه إلي واقعة طريفة، إذ عاتبني بعض الرفاق لأني لا أقوم بأي عمل يدوي مثلهم في عملية البناء تلك فأخذني الحماس وذهبت يوما كاملاً إلي المزرعة لأجمع ثمار البامية دون الالتفات لحماية أصابعي باستعمال قطع من قماش في عملية الجني!.. وعدت في المساء لأجد يدي داميتين، ولا أعرف حتي اليوم إذا كان ذلك مقلباً مدبراً خبيثاً من زملاء أرادوا أن يسخروا مني أو جاءت مصادفة!! انتهي العمل بالمسرح وجاء وقت الاستفادة به والتمثيل علي خشبته. في تلك الأيام تضافر الجميع من معتقلين ومسجونين وحتي من إدارة السجن للاستفادة بذلك المسرح، لكي يرفهوا عن أنفسهم في ذلك المنفي البعيد.. فمثلنا عليه المسرحيات الرائعة سواء من الأدب العالمي مثل: »في انتظار جودو« لبيكيت والمعطف لجوجول.. أو من قمم الأدب العربي مثل: »حلاق بغداد« لألفريد فرج أو »عيلة الدوغري« لنعمان عاشور.. وقد برع منا في التمثيل من ليس له أي صلة بذلك الفن أصلا مثل الأستاذ أحمد نبيل الهلالي المحامي الشهير، وقد مثل دور »نيكراسوف« في مسرحية چان بول سارتر بنفس الاسم. ولشدة عجب مدير السجن بتلك العروض دعا محافظ الواحات الخارجة لحضور عرض مسرحية »عيلة الدوغري« وكان تعليقه في ختام الحفل.. »إن هذا العرض قد أمتعني أكثر من ذلك الذي شاهدته لنفس المسرحية علي خشبة مسرح الجمهورية بالقاهرة«. وأظن أن الذي مثل دور »الطواف« كان محمد الزبير وقد أتقن ذلك الدور تماما، أما المحامي عريان نصيف فقد قام بدور أحمد أفندي! ويوم الاحتفال بعيد الثورة الحادي عشر سنة 3691 وهو ذلك العام الذي لاحت فيه بوادر الانفراج وبدأنا نطلع علي الصحف ونسمع الإذاعة.. أطلقنا علي المسرح اسم »مسرح الغد«.. ويومها أخرج الفنان حسن فؤاد مسرحية »عيلة الدوغري« وصمم كارت الدعوة الذي أرسله للمحافظ وعدّد فيه المسرحيات التي مثلت علي ذلك المسرح، والذي كان منطلق إشعاع ثقافي رائع في كل المنطقة تندر به كثيرون. ومن المؤسف أنني علمت أخيرا من الصديق الأستاذ نبيل زكي، وقد شاركنا كل فترة الاعتقال تلك، أنه في زيارة صحفية لذلك المكان وجده وقد سوته الإدارة بالأرض وكأنه قد عز عليها أن نترك بصمة مضيئة في وحشة الصحراء، ولكن لحسن الحظ أن الصحفي المرحوم الأستاذ مصطفي طيبة كان قد زار المنطقة منذ مدة في ديسمبر سنة 1991 وسجل في ريبورتاج طريف بالعدد 69 من مجلة »نصف الدنيا« تحت عنوان »باستيل مصري اسمه سجن المحاريق« العشرات من الصور والمواقف لتبقي للتاريخ ذكري تلك الفترة العصيبة من تاريخ الشيوعيين المصريين. تجميل ساحة سجن أبوزعبل أنا من المؤمنين بأن »الفن للحياة« وبما أن الحياة تسير حتي داخل السجون، ولو أن سيرها هناك أعرج، فعلينا ان نخفف من وطأتها حتي تمر السحابة من دون إحناء للرأس. في يناير 5791 وجدت في اتساع ساحة سجن »أبوزعبل« للمكان الذي يصلح لتجميله بزرع قطعة فنية، لتكن نافورة، تشكلت حولها رموز منحوتة للحياة؟.. واقتنع معي أحد ضباط السجن الذي كان مازال يتحلي ببعض الصفات الإنسانية.. فقام بعمل وصلة للمياه إلي منتصف الساحة، وبدأ يسمح بدخول مواد غريبة مع الأكل والملابس التي تحضرها ثريا زوجتي في زياراتها الدورية لنا، مثل الجبس والأسمنت والطوب وبلاط القيشاني.. وبحماس من بعض الرفاق معي قمت بتنفيذ التصميم المعماري الذي عاني الكثير من التعثر أثناء العمل.. كانت الفكرة أن مهرجا يطلق المياه من بوق فتغطي أربعة رموز للحياة قابعة علي أركان الفسقية الأربعة: الرمز الأول: »الجمال« وحاولت تشكيله في هيئة تمثال عروس البحر منكفئة علي وجهها باكية لصعوبة الحياة في السجن. الرمز الثاني: »الفرح« ورمزت له بصحبة من زهور، وقد بطشت بها يد العملاق فسحقتها وجعلت الحياة داخل السجن كئيبة.. والرمز الثالث: »الثورة« وكان الرمز لها بشعلة كشعلات الأولمبياد، وقد انطفأت بفعل الزمن المتوقف داخل السجون. أما الرمز الرابع : فهو يرمز للثقافة وكان لحذاء جندي غليظ يدوس بفظاظة علي كتاب مفتوح. وأثناء التنفيذ عانينا مرتين: المرة الأولي: حين انتصب المهرج بكرشه المدلي وهو ينفخ في بوقه.. فقد اكفهر الجو في السجن كله وصارت تكديرة لمدة لا تقل عن أسبوع جاءت أثناءها زيارات من قادة المصلحة وذهبت لتكتب في أوراقها الرسمية: إن المهرج لا يشبه سيادة الرئيس.. وقفل المحضر.. وعدنا للعمل.. كل هذا سمعته من الضابط الإنسان فيما بعد.. يا للعجب؟! أما المرة الثانية التي توقف فيها العمل فكانت حين بدأت بتثبيت الرمز الرابع رمز الثقافة المضروبة، وأعترف أنني أخطأت لأن الرمز كان مباشرا بشكل واضح، فقد أصرت إدارة السجن علي عدم تثبيت ذلك التمثال إذ إن فيه إهانة للضباط جميعا.. وكانت اتصالات بين الإدارة وقيادة الحزب.. وجاءني المرحوم الأستاذ/ زكي مراد ليرجوني ألا أستمر في تشكيل »تمثال العسكري علي الكتاب« واستطالت المناقشات حتي وصلنا إلي حل وسط هو أن يسمح بخروج مصغر لذلك التمثال من الطين الأسوانلي مع ثريا في أول زيارة.. وفعلا خرج النموذج وعملت له قالبا فيما بعد صرت أخرج منه العديد من النسخ التي أهديتها للأصدقاء في صورة شمعدان صغير؟!