لا أدري بأي لسان يتحدث هؤلاء المتشدقون بكلمات التقدير والشكر وأحيانا التكريم!! ولا بأيّ وجه يلقون من يتحدثون إليه وهم يتفوّهون بهذه الكلمات.. يريدون إقناعهم بأن في العهد السابق ما يستدعي شيئا من هذه الأحاسيس النبيلة والسلوكيات التي تصاحبها، خاصة تجاه رأس السلطة ومحركها في العهد السابق.. فقبل عدة أيام من (جمعة النصر 18/2/2011) خرجت دعوة علي (الفيس بوك) إلي وقفة أمام مسجد محمود ردّد أصحابها كلمات مثل ردّ الاعتبار أو الشكر والعرفان والتقدير والتكريم للرئيس المصري السابق.. ودون الدخول في أية تفاصيل، أو استعمال لغة انفعالية.. فقد بدا واضحا _ في نظري وفي نظر من أعرفهم _ أن هذه الدعوة تمثل الذروة لسيناريو خطير بدأ مع أول أيام ثورة الشباب، التي هي ثورة كلِّ المصريين الشرفاء، وهو السيناريو الذي أطلقتُ عليه منذ اللحظة الأولي (سيناريو الالتفاف). لقد جاءت هذه التسمية من واقع ما لاحظته في بيانات النظام السابق ومن خلال إعلامه وهو يحاول في لحظة السقوط أن يجمّل صورته وأن يتمسك بالبقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة عن طريق الترغيب تارة والترهيب تارة أخري. أما وسيلته إلي الترغيب فكانت ما سمي وقتها بتقديم التنازلات استجابة لمطالب الشعب، كالقرار بإقالة الحكومة وتكليف حكومة جديدة، وبتعيين نائب للرئيس، ثم الوعد بعدم ترشُّح الرئيس لفترة جديدة، ثم تفويض نائب الرئيس في صلاحيات الرئيس، ثم مبادرة الرئيس إلي تكليف لجنة من أساتذة القانون لتعديل الدستور. لقد سيقت هذه الخطوات -التي جاءت دائما متأخرة عن المناسبات التي استدعتها _ سيقت بوصفها (تنازلات) من الرئيس مع تذكيرٍ للشعب ب (التضحيات) التي قدمها حربًا كواحد من قادة النصر في حرب أكتوبر، وسلما بمحافظته علي (الاستقرار والأمن) ومكافحة الإرهاب وعدم الزج بمصر في حروب ومشاكل خارجية من شأنها تعريض مصر للخطر. وقد واكب هذه النغمة من الترغيب نغمةٌ أخري قوامها دغدغة عواطف الثوار ومعهم الشعب، وذلك بإذاعة الأغاني الوطنية العاطفية، وخصوصا هذه التي تتحدث عن حب مصر.. أرضها ونيلها وهوائها.. الخ. ثم أضيف إلي ذلك حديث آخر يتوسّل بمفردات القرابة، فالرئيس هو جدّ الأطفال وهو والد الشباب وهو أخ للمواطنين من أبناء جيله، وهو جديرٌ بحب هؤلاء جميعًا لأنه يحب الجميع. أما من منطلق الترهيب فقد اندفعت أبواق الإعلام الرسمي محذِّرة من فقد الأمن، وهو الخط الذي بلغ ذروته بهجوم الجمال والخيول والبلطجية والقناصة علي الثوار العزَّل. وقد تبع الترهيبَ من المنظور الأمني التخويفُ بالخراب الاقتصادي وتوقف عجلة الإنتاج وضياع اقتصاد مصر، ناهياً عن احتمالات الدخول بمصر _ في حالة إزاحة الرئيس- إلي متاهة مظلمة من الإرهاب والفوضي والمشاكل التي لا تعدّ ولا تحصي. لقد صدرت كل هذه المخاطبات في اللحظات الأخيرة الحرجة التي سبقت الإعلان عن تخلي الرئيس عن منصبه. ومع ذلك لم يفلح أي منها في ثَنْي الثوار عن مطالبتهم بتنحِّيه نهائيا عن السلطة، لقد كانت حركتهم في البداية أشبه بحركة سيل بدأ عاديّا فاعترض البعضُ مجراه بالأحجار ثم السدود فزادت قوته وعظم اندفاعه وحطّم كل شئ يعترض مجراه، وجاءت اللحظة الفاصلة، لحظة الإعلان عن تخلّي الرئيس عن منصبه وهو ما أطلق عليه البعض سقوط رأس النظام. كان من المفروض _ منطقيا- أن تكون هذه اللحظة هي لحظة الفصل بين عهد ولي وأصبح في عداد الماضي، وعهد جديد يتطلع إليه أبناء الوطن تطلّعَهم إلي قادم جديد يرجون له أن يكبر وأن يزدهر ويتجاوز ما كان من سلبيات ذلك الماضي الذي كان عليه أن يسلم بمنطق التاريخ، وبحق الشعب في اختيار طريقه وتصحيح مسيرته، وأنه قد آن الأوان لصفحة ذلك العهد أن تُطوي، ولسلطانه أن يزول. غير أن واقع الحال يقول بغير هذا.. واقع الحال يقول إن النظام الذي أُجبِر رأسه بكل الطرق علي خطوة التنحي ما تزال ذيوله تتحرك، وما تزال فلوله وكأنها لا تصدق بحتمية الرّحيل. بل إن لغة بياناته في ساعاته الأخيرة تنضح بعدم تصديقه بما يحدث، وربما بعدم إيمانه بما أقدم عليه، وهو مسلك إن دلّ علي شئ فإنما يدل علي غيبة الوعي، وانعدام القدرة علي وزن ما آلت إليه الأمور. ولنعد إلي لغة إعلامه ومن كانوا يتحدثون باسمه في لحظاته الأخيرة، لقد دأب إعلامه _ كما قلنا - علي وصف ما يقدِم عليه من إجراءات فُرضت عليه فرضا بأنها تنازلات، وتقول اللغة إنّ التنازل لا يصدق إلاّ علي التخلّي عن حق أو ملك خاص، وبالتالي لا يكون قبول استقالة الوزارة وتكليف وزارة غيرها، كما لا يكون قيام الرئيس بتعيين نائب له، وكذلك إعلان الرئيس عن نيته عدم الترشُّح لمنصب الرئاسة لدورة جديدة.. لا يكون أي من ذلك كله تنازلا، وبالتالي ينبغي أن لا يطلق عليه هذا الوصف. هنا نقف علي مجموعة أخري من الصفات التي أطلقها بعضهم علي الرئيس السابق قُبيل التنحي، وتعالت بها أصواتهم بعده.. فذلك الرجل هو صاحب الضربة الجوية الأولي، وهو قائد النصر وهو بطل أكتوبر، وقد أدّي لبلاده خدمات كثيرة، ثم _ وهذا هو المدهش- إنه الأب لكل المصريين !! البعض _ علي سبيل التهوين من إنجاز مبارك في حرب أكتوبر _ يفاضل -من منظور عسكري- بين بدء الهجوم بضربة جوية وبديل آخر كان مطروحًا هو البدء بهجوم مدفعي، وكأنه يريد أن يقول : ليس لمبارك أن يمنَّ علينا بالضربة الجوية، فهناك بدائل كثيرة ربما كانت أفضل من الضربة الجوية.. مثل هذا المنهج في الحوار _ أو الردّ- لا محل له من النقاش في هذا السياق.. وسأفرض _ جدلا واختصارًا للحديث وتعجُّلا للنتائج _ أن مبارك كان هو القائد الأعلي للجيش بدلاً من السادات، وكان هو القائد العام بدلا من أحمد إسماعيل، وكان رئيس الأركان بدلا من الشاذلي، ورئيس العمليات بدلا من الجمسي، وقائد الدفاع الجوي بدلا من محمد علي فهمي، وكان هو قائد المدرعات والمدفعية و.. و.. إضافة إلي الطيران.. لأفرض أنه جَمَعَ كلّ هذه القيادات، وأن جيشه عبر القناة وحرّر سيناء ووصل إلي حدود مصر الشرقية وقضي علي دولة إسرائيل وجيشها دون أن يخسر جنديا واحدًا أو قطعة سلاح واحدة.. فهل يحق له في مقابل ذلك أن يفعل بشعبه ما فعل طوال فترة حكمه؟ هذا هو السؤال الذي يمكن تقديمه بأكثر من صورة، نعم.. هل يقبل العقل أو المنطق أن يكون أداء خدمةٍ ما للوطن.. خدمةٍ هي من صميم واجب المواطن المسئول، أن يكون المقابل هو بيع وطنه وإذلال شعبه وتدميره واستعباده علي نحو غير مسبوق؟ إنّ منطق المُقاصّة _ أن أعطيك كذا وتتنازل لي عن كذا _ لا يصلح في علاقة صحيحة بين حاكم ومحكوم. ومنطق أن الرئيس السابق قد فعل لبلده كذا، وقدم لشعبه كذا، وبالتالي يجب أن لايحاسبه الشعب علي كذا وكذا مما ارتكبه هو ورجال حكمه _ هذا المنطق لا موضع له من العقل أو المنطق، خاصة أن ما حلَّ بمصر في عهده كان هو الأسوأ في تاريخها علي مرّ العصور، ثم إنه لم يكن عن غفلة أو خطأ غير مقصود.. هنا نجيء إلي مقولة أخري من مقولات الالتفاف، تلك هي مقولة (الأب) أقصد دعوي أن الرئيس السابق كان بمثابة الوالد لأبنائه شباب مصر، عطفا عليهم وحبّا لهم وعملا لمصلحتهم، وبالتالي فإن علي الأبناء أن يوقّروه وأن يعاملوه بالحسني حتي لو بدا أنه كان قاسيا أو أنه أخطأ في بعض الأحيان، فإن حقوق الأبوّة وتقدّم العمر وسابق الخدمة.. كلّ أولئك يوجب علي الأبناء أن يسامحوا وأن يغفروا ثم .. أن لا يرفضوا وأن لا يثوروا. لقد ترددتْ هذه المقولة في لحظات سقوط الرئيس.. ثم علت بها _ مع بقية المقولات الأخري الساعية إلي الالتفاف- أصواتُ أذناب النظام وفلوله، بعد أن التقطوا أنفاسهم وأفاقوا من هول الصدمة عاجزين عن استيعاب ما حدث أو التصديق به. ومن الغريب أن يفسّر بعض الأكاديميين من أساتذة الاجتماع .. ثورة المصريين ضد نظام الرئيس مبارك.. بأنها ثورة الأبناء علي سلطة الحاكم الأب ورفضٌ للثقافة القبلية التي رسّخت هذه السلطة.. وخلطت بين الرئيس والوالد، وهو تشبيه _ أو تفسير _ مرفوض في نظري، تماما كالتشبيه الذي يشيعه أذيال النظام، فشتان ما بين الحاكم الأب في نظام القبيلة وكذلك الأب الفعلي.. والأبوة المدّعاة للرئيس السابق.. الأبوة الفعلية، وحتي القبلية، قوامها المسئولية الكاملة تجاه الأبناء: رعايتهم والسهر علي مصالحهم والدفاع عنهم .. ثم يكون دور الأبناء في الاحترام والتوقير والبّر عند الشيخوخة الحقيقية... هناك مقدمات تعقبها نتائج .. مقدمات من جانب الأب: الرعاية والإيثار والحب والعدل.. ثم النتائج من جانب الأبناء بالبر والاحترام والتوقير.. أما في حالتنا _ أعني علاقة الرئيس السابق بمحكوميه- ولا أقول بشعبه، فإن المقدمات الطبيعية معدومة، وهي _ إن وجدت _ فقد كانت الإهمال والإحباط والظلم والتعالي. بل والكراهية .. وبالتالي فالمطالبة بالنتائج الطبيعية لعلاقة بين أب وأبنائه غير منطقية في هذا السياق. عند هذا الحد أسارع إلي القول.. إن كلّ ما مضي من حديث عن أبوّة وبنوّة وحقوق وواجبات، كان مجرد استطراد بفعل التداعي للردّ علي بعض ما يقال في إطار سيناريو الالتفاف، أما الخلاصة فإن الرئيس السابق لم يكن أبًا بأيّ من معاني الكلمة، كما أن الثوار لم يكونوا كلهم من طبقة الأبناء، لقد صدرت الثورة ضد الرئيس وأسرته وبطانته من كل فئات العمر في المجتمع المصري أطفالا وشبابا وكهولا وشيوخا في خريف العمر... لأن أحداً من شرفاء هذا البلد لم يسلم من ظلم الرئيس وعائلته وبطانته وحزبه. من هنا فلا محل لأن يخوِّفنا أحد بشيء، ولا لأن يعيّرنا أحد بشيء ولا أن يمن علينا أحد بشيء، فالذي فعله الرئيس من حَسَنٍ كان واجبه، وكان مسئوليته، ولا مانع من أن نشكره عليه، والذي أساء فيه، وهو كثير كثير كثير.. يجب أن يحاسب عليه، أو _ علي الأقل- يجب أن لا يُنسي، لأنه كان السبب الطبيعي والمبِّرر المنطقي للثورة. أما الاستجابة لسيناريو الالتفاف من الترهيب والترغيب بكل صورهما -وهي مرفوضة -فمن شأنها أن تعيدنا إلي مربع الصفر، وهي _ أيضا- دعوة مغرضة ومرفوضة.