بالنظر إلي الرواية المغربية المكتوبة باللغة العربية، يمكن أن نسجّل مجموعة من الملاحظات، منها: أن هناك اليوم حيوية أكيدة في الإنتاج الروائي بالمغرب، فقد صدرت في هذه السنوات الأولي من الألفية الثالثة ما يقارب ثلاثمائة رواية مكتوبة باللغة العربية.. وهذا مؤشر إيجابي علي أن الرواية تعرف بالمغرب تراكما كميا ملحوظا، فمن الثمانينيات إلي اليوم أصدر الكتّاب المغاربة ما يقارب ستمائة رواية باللغة العربية، وهو عدد يفوق، بعشر مرات ربما، ما صدر من روايات في مرحلة تمتد من الأربعينيات إلي السبعينيات، والتي قد لا يتجاوز عددها الخمسين رواية؛ مع الإشارة إلي أن سنوات التسعينيات وبداية الألفية الثالثة تستحوذ علي الجزء الأكبر من هذه الأعمال الروائية، بما يتجاوز الأربعمائة رواية. الملاحظ من ناحية ثانية هو تعدد وتنوع المساهمين في الإنتاج الروائي، بشكل يبدو معه الأمر كأن الرواية المغربية الآن تختزل ماضيها أو تاريخها كله، فبعض رواد الرواية المغربية في الستينيات والسبعينيات( عبد الكريم غلاب، مبارك ربيع ..)، وبعض مؤسسي حركة التجديد أو التجريب في السبعينيات والثمانينيات(عبد الله العروي، أحمد المديني، ومحمد عز الدين التازي، محمد برادة، الميلودي شغموم، محمد الهرادي..)، أغلبهم إن لم يكن كلهم يواصلون الإنتاج والإبداع إلي اليوم. وفوق ذلك، فالملاحظ اليوم كذلك هو تكاثر وتزايد كتَّاب الرواية، رجالا ونساءً: بالنسبة إلي الرواية التي تكتبها المرأة المغربية، فاللافت أن سنوات الألفية الثالثة قد شهدت صدور ما يقارب الأربعين رواية، مع أن ما صدر منها في النصف الثاني من القرن العشرين لا يتعدي العشرين رواية؛ وإذا كانت الأسماء قليلة جدا من الخمسينيات إلي السنوات الأولي من الثمانينيات( آمنة اللوه، فاطمة الراوي، خناثة بنونة، ليلي أبو زيد)، فإنه من أواسط الثمانييات إلي اليوم تضاعف العدد مرات عديدة، ومنهن من ألفت أكثر من عمل روائي كزهور كرام التي تجمع بين النقد والإبداع، ومنهن من وصلت إلي العمل الروائي الثالث كزهرة المنصوري، ومنهن من جاءت من القصة إلي الرواية، كزهرة رميج وربيعة ريحان ووفاء مليح، ومنهن من جاءت من الشعر إلي الرواية كفاتحة مرشيد وعائشة البصري وحفيظة حسين، ومنهن من تمتح من مصادر إبداعية ومرجعيات نقدية مغايرة، كاسمهان الزعيم التي أنجزت رسالتها لنيل الدكتوراه حول الأدب الاسباني في اسبانيا وأمريكا اللاتينية، وأصدرت روايتها الأولي، ومنهن: خديجة مروازي والمرحومة مليكة مستظرف وحليمة زين العابدين، وسعاد الرغاي وسناء العاجي ودليلة حياوي... أما كتّاب الرواية الجدد من الرجال، فمنهم كتّاب ينتمون إلي فضاءات اجتماعية وثقافية ومعرفية مختلفة ومتنوعة( متخصصون في القانون والاقتصاد والعلوم السياسية والتاريخ والفلسفة والجماليات...)، ومنهم من أتي من الشعر أو القصة القصيرة.. وأصدروا رواياتهم الأولي في التسعينيات وبداية القرن الجديد، ونذكر منهم بنسالم حميش ويوسف فاضل وأحمد التوفيق ومحمد الأشعري وحسن نجمي وشعيب حليفي وعبد الحي المودن وعبد الله زريقة وبهاء الدين الطود ومحمد غرناط وأبو يوسف طه ومحمد أنقار والحبيب الدايم ربي وعبد الكريم الجويطي وجلول قاسمي ونور الدين وحيد ومحمد أمنصور وكمال الخمليشي وجمال بوطيب وأحمد الكبيري وعبد الغني أبو العزم وعبد الحميد الغرباوي ومحمد الدغمومي وموليم العروسي والبشير الدامون ولحسن حداد وحسن طارق وأحمد اللويزي ومصطفي الغتيري وعبد العزيز الراشدي واسماعيل غزالي ومحمود عبد الغني ونور الدين صادوق وخالد أقلعي وعبد العزيز آيت بنصالح وعبد الحكيم معيوة وطارق بكاري وياسين عدنان. ما ينبغي لنا تسجيله إذا هو تدفّق النصوص الروائية علي المستوي الكمي في السنوات الأخيرة من القرن الماضي والسنوات الأولي من القرن الجديد؛ ومن الضروري أن يلقي هذا التدفق ما يكفي من الاهتمام والدرس والنقاش، بتنظيم لقاءات وندوات وتأليف دراسات وأبحاث حول الرواية المغربية الآن، بالشكل الذي يدفع إلي طرح أسئلة أساس لا تقف عند حدّ الاحتفاء بهذا التقدم علي المستوي الكمّي، بل تتجاوزه إلي مساءلة المستوي النوعي؛ ومن أهم هذه الأسئلة في تقديرنا: ماذا عن المستوي النوعي لهذه الأعمال الروائية التي تتزايد يوما بعد يوم؟ ما هي أهم خصائص الأدب الروائي بالمغرب أواخر القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة؟ هل تعرف الرواية المغربية في الزمن الحاضر فعلا تحولا نوعيا يستدعي أن نوليه الاهتمام والدرس والبحث والنقاش؟ ما هو هذا الشيء الجديد الذي تعرفه اليوم الرواية بالمغرب؟ بماذا نصف الرواية بمغرب اليوم؟ إذا كنّا بالأمس نتحدث عن الرواية التقليدية، أو الرواية الواقعية، ثم عن الرواية التجريبية أو الرواية الجديدة أو الرواية الحداثية، فما هو الوصف الملائم للرواية في مغرب الألفية الثالثة؟ أيتعلق الأمر، علي مستوي النوعية والجودة، بحركة تقدم أم بحركة تقهقر وتراجع؟ بالنظر إلي الروايات المغربية التي صدرت في السنوات القليلة الأخيرة، نفترض أن هناك مشروعا روائيا يتصف بملامح خاصة، من أهمها أن هناك عددًا من الروايات التي تتميز بهذا الاشتغال الجديد: فهي تشتغل تخييليا ببيوغرافيات الكتَّاب والفنانين والمفكرين، ومنها رواية: هذا الأندلسي للروائي بنسالم حميش التي صدرت سنة 2007، وفيها اشتغل بسيرة الصوفي الفيلسوف الأندلسي ابن سبعين( وسبق أن اشتغل بسيرة ابن خلدون في روايته: العلامة الصادرة سنة 1997، وبسيرة الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في روايته: مجنون الحكم الصادرة سنة 1990)؛ ومنها رواية الروائي بهاء الدين الطود الصادرة سنة 2010 تحت عنوان: أبو حيان في طنجة، التي تستحضر التوحيدي وتعقد لقاءً بينه وبين الكاتب المغربي محمد شكري؛ ومنها رواية الشاعر حسن نجمي الصادرة سنة 2011 تحت عنوان: جيرترود، التي يعود فيها إلي بيوغرافية الكاتبة الأمريكية الشهيرة جيرترود ستاين؛ ومنها رواية الناقد صدوق نور الدين الصادرة سنة 2011 تحت عنوان: الروائي، وموضوعها هو الروائي المغربي الراحل محمد زفزاف وروايته الشهيرة: الثعلب الذي يظهر ويختفي؛ ومنها رواية الشاعر محمود عبد الغني: الهدية الأخيرة الصادرة سنة 2012، التي تحتل فيها سيرة المصورة الأمريكية لي ميلر مكانة خاصة؛ ومنها رواية، تعود إلي الممثلة الأمريكية الشهيرة جريتا جاربو، صدرت مؤخرًا للشاعرة عائشة البصري تحت عنوان: حفيدات جريتا جاربو... ولاشك في وجود نماذج أخري تدفعنا كلها إلي طرح الأسئلة الآتية: هل أصبح التخييل البيوغرافي رهانَ الرواية بالمغرب المعاصر؟ وماذا نقصد بالتخييل البيوغرافي؟ وما أهمية هذا التخييل في ضوء التحولات التي تشهدها الرواية المعاصرة، شكلا وخطابًا؟ والأهم من كلّ ذلك، ما أهمية هذا التخييل البيوغرافي في بناء صورةٍ للذات وللآخر؟ أنحن بصدد مشروع تأويلٍ جديدٍ للآخر؟ اللافت كذلك في الروايات التي صدرت في السنوات الأخيرة، من أسماء تنتمي إلي الأجيال السابقة واللاحقة، هو ابتعاد الكتابة الروائية عن الأحادية والمونولوجية والإيديولوجية، وسعيها إلي الاقتران باللعب، بحيث يبدو النص الروائي كأنه لعبة أو شيءٌ لَعِبِيٌّ، فالبنية السردية لم تعد تقوم علي الخطية والتتابع والتسلسل، وإنما علي لعبة التفكك والتجاور؛ والبنية السردية لم تعد قائمة علي الوحدة والتماثل، بل علي لعبة التعدد والانقسام؛ والنص السردي لم يعد مجرد تشخيصٍ وتمثلٍ لعالم مرجعي، بل إنه يمزج بين المعيش والمتخيل، ويُعدِّد منظورات السرد ومستويات الكلام، ويمارس لعبة الكتابة وإعادة الكتابة، ولعبة التنظير والتخييل النظري... والروائي إذ يمارس اللعب، ويؤسس نصه الروائي علي بنيات لَعِبِيَّة، فإنه بذلك يدعو القارئ إلي ممارسة اللعب وإعادة بناء النص، ويُحرِّضه علي إنجاز تركيباته وتوليفاته الخاصة، وعلي ركوب المغامرة في التفسير والتأويل، باعتبار أن أكثر شيءٍ يُحفِّز القارئ هو: أن يمارس عمله بوصفه ذلك القارئ الذي يلعب، وأن تكون له القدرة علي أن يلعب دوره في العمل المنتَظَر منه باعتباره قارئا؛ فالروائي المعاصر يدعو القارئ إلي لعبة، يقترح عليه بعض عناصرها، ويترك له الحرية في استعمال ذكائه ومتخيله، ولهذا تأتي القراءة كأنها إعادة كتابة، كإعادة تأليفٍ متواصلة للحدث، للشخصية، للسارد، للنص، داخل لعبةٍ لا تكتمل أبدًا. وبهذا المعني، فالكتابة الروائية لم تعد مجرد مرآة عاكسة ومطابقة لما يسمي الواقع، وإنما هي فضاء مفتوح علي احتمالات متعددة، أي أنها فضاء حوار فيه من الحرية ما يسمح بإشراك القارئ وتوريطه.