بعد رحيل المفكر الكبير محمد عابد الجابري،* يُفجع الفكر العربي/ الإسلامي برحيل عَلَم ٍ آخر من الرواد الكبار، هو المفكر المجتهد نصر حامد أبو زيد، في وقت نحن احوج ما نكون فيه إلي مَنْ يواصل الكفاح المرير في سبيل "إنقاذ هذه الأمة من هذه الغُمة". أقول ؛ "الكفاح في سبيل إنقاذها"، ليس فقط في مواجهة "الآخر" المُتَغَوِل، الذي يحتل أرضنا ويستعبد أهلنا ويذلّ ُ أمتنا، وحسب، بل الكفاح في سبيل مواجهة "الأنا ": أقصد أنظمتنا العربية الفاسدة والخاضعة والخانعة، و مجتمعنا المتخلف والجاهل، وعلي وجه الخصوص، في مواجهة ذلك الرعيل الذي حاز ألقابا أكاديمية عالية، أي "أصحاب المراكز المزورة"، كما يسميهم الفيلسوف العربي الكِنْدِي. لإن ذلك الرعيل، يظل يسبح في غياهب الجهل المركب، فهو "لا يدري ولايدري انه لا يدري"، بعبارة الإمام علي بن أبي طالب، (ع). هذا الرعيل أخطر كثيرا ً علي مستقبل الأمة من الناس العاديين الذين لم تتح لهم الفرصة للحصول علي التعليم الأساسي. وهكذا " يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه". نعم، رحل أبو زيد الرائد الإسلامي الذي كافح واجتهد في سبيل تجديد الفكر الإسلامي، تيَمُنا ً بالحديث الشريف :"إن الله يبعث لهذه الأمة علي رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"( عن أبي داود في سننه عن سليمان بن داود المهري وصولا إلي أبو هريرة، فيما نعلم ). نعم، رحل هذا البطل إلذي كرس حياته لقول كلمة الحق في وقت أصبح فيه النطق بهذه الكلمة يعني التضحية بالذات كما حدث للمفكرالدكتور فرج فوده الذي قتل ظلما وعدوانا، بعد إصداره كتابه " الحقيقة الغائبة"، وكما حدث للشيخ الفاضل علي عبد الرازق، بعد إصداره كتابه القيّم " الإسلام وأصول الحكم"، إذ عُزل من منصبه في القضاء وحُرم من شهادة العالمية الازهرية. ومات كمدا وهو ينعي علي الامة جهلها ولسان حاله يقول :"يا أمة ضحكت من جهلها الأمم" أما نصر حامد أبوزيد فقد حُرم من حقه في الترفيع إلي درجة الأستاذية لا لضعف بحثه أو عدم حيازته المستوي الأكاديمي اللائق، الذي كان متوفرا ً علي أعلي المستويات، بل لأنه اتهم بالكفر والردة فطُلق من زوجته قسرا باعتباره مرتدا ً. " ومن المخجل أن يوصف بالكفر من يحاول ممارسة الفكر ، وأن يكون التكفير هو عقاب التفكير" (أبو زيد، من كتابه " التفكير في زمن التفكير، ص13). ويتهكم نجيب محفوظ فيقول :"عجيب أمر هذه الجامعة فهي ترفض ترقية أحد الباحثين المجتهدين وتصفه بأنه أستاذ مساعد كافر، فتحرمه من لقب "أستاذ كافر"، وكأن الجامعة لا تقبل بين أعضاء هيئتها التدريسية الكافر بدرجة إستاذ، وإن كانت تقبل الكفار حتي درجة أستاذ مساعد "(صحيفة العرب ، لندن 30/4/1993). لا أفهم لماذا لم نطبق علي أبي زيد القول المأثور عن فقهائنا الأوائل الذين أعلنوا أن :" من اجتهد فأصاب له أجران، ومن اجتهد ولم يصب فله أجر واحد". وتفسيرا موجزا لموقف أبي زيد بالنسبة لنظريته في تفسير النص الديني، (الذي نعتبره اجتهادا ً علميا ً وفقهيا ً رصينا ً، أتمني أن أتمكن من سبره في مناسبة قادمة)؛ سنحاول إظهار التواضع العلمي لهذا المفكر الكبير الذي يصرح ، في كتابه العُمدة "مفهوم النص،دراسة في علوم القرآن"؛ إنه "لايزعم امتلاكه الحقيقة بألف لام العهد، وإنما يزعم أنه في سبيله للبحث عنها ومقاربتها بالقدر الممكن علميا وإنسانيا نصر حامد أبو زيد لم يمت، بل سيظل خالدا؛ عقلا فاعلا ً ، وفكرا متوثبا، وأثرا ً مؤثرا ً في الثقافة العربية الإسلامية، كما أثر فيها كبار المفكرين الفاتحين. وتقع علي الكتاب والباحثين العرب الأحرار مسؤولية كبري في بحث نظريته وتمحيصها وتحليلها، بطريقة علمية معرفية (إبستمولوجية)، قد تساهم في رفع مستوي "العقل المجتمعي الديني" المتخلف والسائد، عن طريق استخدام " العقل الفاعل " بدل استعمال "العقل المنفعل" كما يحدث اليوم . وختاما لنستمع معا بإجلال إلي هذه القصة: عن أنس رضي الله عنه قال : أثني قوم علي رجل عند النبي صلي الله عليه وسلم حتي بالغوا .. فقال عليه الصلاة والسلام : كيف عقل الرجل ؟ فقالوا : يا رسول الله، نخبرك عن اجتهاده في العبادة وأصناف الخير وتسألنا عن عقله ؟ فقال صلي الله عليه وسلم : إن الأحمق يصيب بجهله أكثر من فجور الفاجر وإنما يرتفع العباد غداً في الدرجات الزلفي من ربهم علي قدر عقول