أمين الألفي بطل أيام وردية رواية علاء الديب كهل في الخمسينيات من عمره، أخصائي اجتماعي في مدرسة ثانوية بمدينة مصرية من مدن الدلتا، مترجم وكاتب ومفكر عربي، زوج السيدة/ شادن البيلي مدرسة لغة إنجليزية، وأب لولدين في الإعدادي والثانوي. تبدأ الرواية في تسعينيات القرن الماضي، وأمين منفصل نفسيا وجسديا عن بيته وزوجته وقريته وزملائه في المدرسة، غريب في بيئة ترهق أعصابه بالضوضاء والقبح والبذاءة، زاهد ومنطوي علي نفسه، لا يشاهد التليفزيون ولا يقرأ الجريدة اليومية ولا يحادث أحدا، مهموم وخائف وحزين، يغلق عينيه عن كل ما حوله، ويغرف أفكاره وذكرياته وأحلامه في كئوس الخمر الرخيصة ودخان المخدرات وأوهام الحبوب المهدئة. كانت زوجته الصحفية قد انفصلت عنه بجسدها ومشاعرها بعد أن أصبحت عضوا في قبيلة من المحجبات والمنقبات أقامت حولها سداً من كتب لا تتحدث سوي عن عذاب القبر وأهوال الجحيم. كان أمين يراقب بخوف وحزن كيف تتهاوي أمام عينيه مثل وقيم وعلاقات اجتماعية وإنسانية لتحتل عروشها العريقة منظومة أخري من الأنانية والفردية والإقبال علي المتع الحسية وعبادة المال والزهو بالممتلكات. امتدت أمام أمين أيام حياته فبدت مثل صحراء جرداء، لا يؤنسه فيها سوي صبي فقير يسعد بذكائه وتفوقه الدراسي وفهمه للمعرفة، وسنديانة يلو - كلما داهمته الهموم - بصلابتها وشموخها ورسوخها. صنع أمين لنفسه حجرة صغيرة في بلكونة منزله ينام فيها ويدخن ويكتب مقالات وقصص ظلت لسنوات مجرد مسودات ونوايا لا تتحقق أو لا تكتمل. عندما تفاقمت أحواله النفسية، وبلغت من التردي حد السقوط في الاكتئاب اقترح عليه صديقه الطبيب ألبير بشاي أن يعالجه في مصحة يملكها متخصصة في الأمراض النفسية والعصبية.. مصحة لها فروع في فلسطين يعالج فيها ألبير المرضي من اللاجئين والمحتاجين بإخلاص وتجرد. انتقل أمين إلي المصحة فهدأت نسبيا أعصابه في بيئة مختلفة تنعم بالخضرة والنظافة والصمت وفي المصحة تعرف علي عفاف الفلسطينية التي اغتصبها في بيروت ثلاثة من رجال الكتائب، طارت عفاف إلي كل أرجاء المعمورة بحثا عن علاج لجراحها الغائرة التي خلقها حادث الاغتصاب، ثم استقرت في المصحة ومازالت تعاني من نفس النوبات العصبية. نمت علاقة أمين بعفاف من الشعور بالارتياح والألفة إلي شعور بالصداقة ونوع من الود لا يخلو من حميمية. كانت عفاف شابة مليئة بالفضول والطيبة والسذاجة والمرح، وقد طلبت من الأطباء أن يسمحوا لها بالخروج مع أمين ذات مساء في سهرة تجلس فيها مع أصدقائه الكتاب المشهورين. هيأت عفاف قلبها المشروخ لصحبة طيبة وليلة حافلة بالمسرات، وتمني أمين من كل قلبه أن يهيئ ليلة خالصة من الذكريات السوداء وجلسات الكهرباء، وبؤس الوحدة وحبات الدواء، صاحبها أمين إلي ناد معروف يجتمع فيه المثقفون، وهناك تقابلا مع فارس شهير من فرسان الصحافة ما أن اقترب منها حتي شرع في مغازلتها بغلظة وسماجة، داس بجلافة علي جراحها الطرية الغائرة فعادت إلي المصحة حزينة ومهانة ومحبطة. تحول انفصال أمين عن زوجته إلي انفصال موثق بورقة رسمية، وعندما خرج من المصحة بلا زوجة ولا أبناء ولا بيت فكر في أن يعود إلي قريته، وهناك وعلي أرض زرعها صديق لوالده أسلم الروح. كان أمين الألفي يتطلع إلي نسق من العلاقات الاجتماعية يتسم بالعدل والاتساق، وكثيراً ما كان يحدث نفسه قائلا : كان من الممكن أن تكون الأحوال في مصر أحسن بمئات المرات لو وجد أناس حقيقيون يطبقون الاشتراكية ويعيدون بناء البلد، وكان كثيرا ما يتساءل : لم انتصر الانتهازيون بينما انزوي كل وجه نبيل وكل قيمة شريفة؟ استقر أمين أخيرا علي شاطئ اللا جدوي، وهو ما يعني عنده اليأس من محاولة تغيير المجتمع بالعمل السياسي أو الثقافي، لقد حاصرته قوي المحافظة والحرص علي جمود الوضع الراهن فاضطر إلي التوقف عن القراءة والكتابة، وإلغاء الندوات التي كان يعقدها في المدرسة لشرح الأبعاد المختلفة لقضية فلسطين. والسؤال الآن لماذا تحول ما تبقي من عمر أمين الألفي إلي وقت ضائع وإمكانية مهدرة، ولماذا كان للمتغيرات التي عرفتها مصر في السبعينيات وحتي نهاية القرن العشرين هذا التأثير المدمر علي عقله وقلبه ؟.. هل كانت أسباب التردي في حياة أمين من اليأس إلي الاكتئاب كامنة في عجزه عن التكيف مع تلك المتغيرات، بعبارة أخري هل كانت كامنة في تشبثه بزمان ولي وانقضي : زمان من الرؤي والقيم والشعارات ذات التوجه الوطني والقومي والاجتماعي والإنساني؟ في ظني أن محاولة البحث عن إجابات لهذه الأسئلة ربما تكمن في تأمل مفردات بناء الشكل الفني لهذه الرواية : مفردات الدراما والإيقاع وأساليب تجسيد وتلوين تفاصيل المشاهد المتتابعة المستمدة من الواقع أو المستدعاة من الذاكرة. إن المتأمل لهذه المفردات سوف يكتشف أن بناء الرواية قد أقيم علي لحنين أساسيين: أمين الألفي من ناحية والمتغيرات المتلاحقة في حياته اليومية في البيت والشارع والمدرسة والمصحة والقرية من ناحية أخري. أمين الألفي في الرواية كان مفكراً وأديباً يرقي الصدق في حياته إلي مستوي العقيدة: الصدق بالمعني الأخلاقي والفكري والنفسي والسلوكي، الصدق الذي يهب المعني الحقيقي للفلسفة وللنظرية وللفكرة وللشعار، والذي يهب المعني الحقيقي للعمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، الصدق الذي يعني الجدية والنظافة والأمانة وإتقان العمل، وتطابق النوايا مع الأقوال والأقوال مع الأفعال، والذي يعني الرحمة والتواضع والبساطة والصبر، والزهد في الشهرة والدعاية، الصدق الذي يعني جهاد النفس ضد الكذب والضلالات والأوهام وضد الإغراء والغواية والهوي والفوز بعد طول عناء بامتلاك الحقيقة وسكينة القلب والسلام. عند أمين الألفي لا معني أن تكون مسلما أو مسيحيا وجوديا أو اشتراكيا محافظا أو مجدداً سلفيا أو تقدميا إلخ. بلا صدق كان أمين تزعجه ميكروفونات الجوامع وإلحاح الدعوة لارتداء الحجاب أو النقاب والتشدق بلا ضرورة بآيات القرآن أو الأحاديث الشريفة لا لشيء سوي لأنه ينفر من كل ما في هذه السلوكيات من كذب وزيف وادعاء وتظاهر وغش لم يكن أمين يعترض علي شعائر الإسلام وأوامره ونواهيه فقد كان يعشق الجلوس في ضريح صغير لولي مغمور من أولياء الله ينصت لآيات القرآن الكريم ويتأمل في صفاء وسكينة ما تحتويه من بلاغة واتساق وقوة ورحابة ونور. كان الصدق عند أمين الألفي هو ما يحول الحب إلي عشق وما يرقي بالكائن الإنساني إلي مستوي يليق بإنسانيته لأن التخلي عن هذا المستوي عنده يحيل الناس إلي كائنات من قش وغيوم ودخان إلي مجموعة غرائز وإلي حالات. كان أمين يبحث عن الصدق في عيون ولديه وفي الشعر والقصة والموسيقي وفي مستويات الانتماء الحقيقي للأسرة وللعائلة وللوطن. وكان يري في السنديانة الجميلة المهيبة الراسخة القوية والمندفعة في شموخ وحرية كان يري فيها آية من آيات الصدق : صدق الكائن المتفاعل مع الأرض والنهر والشمس والهواء والذي يهب للحياة وجوده وخضرة أوراقه الوارفة في بساطة وتجرد وصمت. كان أمين مثالاً للفطرة السوية، وللمواطن المنتمي إلي شعبه وأمته، وللمثقف الذي ترقي الثقافة بإنسانيته وبصيرته وحسه المرهف وتبلغ به مستوي نادرا من البساطة والتواضع والحكمة. والآن كيف كان باستطاعته وهو بهذا التكوين الثقافي والأخلاقي والسياسي أن يتكيف مع المتغيرات الجديدة إنه يفهم السلام مثلا باعتباره إقرارا بالحقوق المشروعة واتفاقا متوازنا يحقق لأطراف الصراع العربي الإسرائيلي الكرامة والعدل وفرص التعايش السلمي، أما ما تحقق من سلام مع إسرائيل فقد تحول إلي أحجار ثقيلة ترزح علي قلبه كما رأي ما يعانيه الفلسطينيون في الأرض المحتلة وفي الشتات. كان أمين الألفي يراقب من موقعه البعيد مجتمعا تزحف علي مدنه الأحياء العشوائية وتتبدل ملامح قراه إلي مسخ لا ينتمي للريف ولا للمدينة ويتحول تلاميذه من طلاب علم إلي طلاب شهادات مختومة ويتردي إحساسه الديني بعيدا عن ذرا الفضائل والقيم الأخلاقية والاجتماعية والحضارية إلي سفح الاهتمام بطول اللحية ومساحة الثياب وطقوس الطهارة، مجتمع تدفع للبطالة جموع شبابه إلي تعاطي المخدرات أو الانضمام إلي جماعات تهدي الناس إلي الخير والرشاد بإرغامهم علي الإذعان لإرادتهم. أيام وردية هي رواية علاء الديب للأيام الأخيرة في حياة أمين الألفي تلك الأيام التي قضاها غريبا في بيته ومدرسته وقريته ومدينته والتي انتهت وقد تحول إلي شبح عابر رث الثياب يمشي لفترات طويلة في مدن لا يعرفها محدقا في زمان قديم.