في عام 1827 طرح الأديب الالماني الكبير جوته منظوره "للأدب العالمي " الذي شاهد فيه محصل تاريخ آداب الشعوب ، وهي رؤية انسانية رحبة تأخذ بعين الاعتبار اسهام جميع الشعوب في التأسيس للثقافة العالمية ، ولاشك ان مفهوم جوته بصدد الادب العالمي له اعتباره عند التأريخ لتاريخ الادب العالمي ، لكنه يفسر الادب العالمي من مفهوم تراكمي لا يفرق بين ذخائر الادب ونصوصه العابره . لقد بعث مفهوم الأدب العالمي بتفسيرات مغايره بعد جوته ، فهناك تفسير يري في الادب العالمي مفهوما قرين الصله بالأعمال الأدبية الاكثر اهمية فنيا والاكثر شيوعا في الاداب المختلفه ، وهو رأي جدير بالاهتمام ، ويتقاطع مع تفسير آخر يري في الأدب العالمي مجملا للأعمال الادبية التي ترتبط بنظام من العلاقات المتبادلة ، علاقات التناص ، والتأثيرات المتبادلة بين النصوص في الآداب المختلفة . ان تاريخ الاداب يشهد علي وجود نصوص أدبيه في الآداب المختلفة استطاعت اجتياز حدود الزمان والمكان ، والتأثيرفي الثقافات المختلفة ، والامثلة علي ذلك كثيرة : "ألف ليلة وليلة " ، "كليله ودمنه" ، " الالياذة " ، " الكوميديا الالهية "، "هاملت" ، "الحرب والسلام"، "الاخوه كارامازوف " وغيرها. وما من شك في ان الفنية العالية لهذه المؤلفات ، والمضامين الانسانية العامة لها كان السبب في التأثير الممتد لهذه الاعمال ، وفي اكتسابها سمة العالمية . في هذا الاطار فإن مسرحية تشيخوف "بستان الكرز " يصدق عليها مفهوم العالمية ، فهذه المسرحية التي صدرت في عام 1904 مازالت تتقرأ وتقدم علي مسارح العالم حتي يومنا هذا، من خلال رؤي متنوعة ، آخرها العرض المسرحي "بستان الكرز" في لبنان والذي بدأ في اكتوبر من العام الحالي ، واخرجه وشارك في التمثيل فيه المخرج اللبناني كارلوس شاهين في مسرح المدينه في بيروت .ومسرحية "بستان الكرز " من اكثر مؤلفات تشيخوف شعبية وانتشارا في وطنها وخارجه ، وقد تم ادراجها في برنامج الادب في المدرسة الثانوية في روسيا ، وبذا يمكن القول بأنها اسهمت في تشكيل المخزون الثقافي لأجيال من الشباب في وطنها. قدم عرض مسرحية " بستان الكرز " لاول مرة في روسيا في المسرح الفني في عام 1904 وقام بإخراجه المخرج الكبير ستانيسلافسكي ، ومنذ ذلك التاريخ لم تتوقف ترجمات وعروض المسرحيه في مسارح العالم ، فقد ترجمت الي الانجليزية في عام 1908 ، ومثلت علي المسرح الانجليزي في عام 1911 ، وتوالي بعد ذلك ظهورها علي مسارح العالم ومنها مصر ، حيث قام بترجمتها واخراجها الشاعر والمخرج نجيب سرور ، وقدمها علي مسرح الجيب في عام 1965 . ومن المعروف ان نجيب سرور قد تلقي تعليمه في روسيا وخبر الحياة والواقع الاجتماعي في روسيا بشكل مباشر ، وقد اثارت المسرحية في وقتها الاهتمام ، وكتب الناقد الكبير محمد مندور معترضا آنذاك علي تقديم مسرحية كلاسيكية مثل "بستان الكرز " علي مسرح الجيب التجريبي الطابع . مسرحية تشيخوف "بستان الكرز " هي لحن تشيخوف الاخير، فقد ظهرت في عام وفاته ، وجسدت رؤيته لتحولات الواقع في روسيا آنذاك. . يتناول موضوع مسرحية " بستان الكرز " تصوير مصير " بستان الكرز " ، حيث يتركز الحدث الرئيسي للمسرحية حول افلاس عائلة روسية اقطاعية نبيلة واضطرارها لبيع بستان الكرز وفاءً لديونها ، المسرحية تفتقد الي الصراع التقليدي ، وتمتلئ بالتفاصيل الحياتيه العادية والحوار غير المترابط . تدور الاحداث في المسرحية في ضيعة الاقطاعية لوبوفترانيفسكايا التي عادت مع ابنتها من فرنسا بعد غياب استمر لسنوات ، وقد اضطرت للعودة من فرنسا بعد افلاسها ووقوعها في الديون ، وجاءت لبيع ضيعة بستان الكرز لسداد الديون . ويعرض عليها التاجر لوباخين الذي كان والده احد الفلاحين الاقنان عند جد الاقطاعيه هدم بستان الكرز، وتقسيم الارض وتحويلها الي ارض مبان لإقامة مساكن للمصيفيين ، لكن الاقطاعيه لوبوف رانيفسكايا ترفض هذا الاقتراح لانها لا تستطيع ان تتقبل فكرة هدم البستان الجميل الذي يمثل بالنسبة لها الكثير : ذكريات الطفولة ،والشباب ، والاهل ، العلاقه الحميمه مع البستان نلمسها في احاديث كثيره لها :" (تنظر من النافذه الي البستان ) يا طفولتي ، يا طهارتي !في غرفة الاطفال هذه كنت انام ، وانظر من هنا الي البستان ، والسعادة تستيقظ معي كل صباح ، وكان آنذاك مثلما هو الآن تماما ، لم يتغير شئ ( تضحك من الفرحة) كله، كله ابيض ! يا بستاني الحبيب ! بعد الخريف المظلم المكفهر ، والشتاء البارد عدت فتيا ، مفعما بالسعادة ولم تهجرك ملائكة السماء..... انظروا ، المرحومه امي تسير في البستان ...في فستان ابيض! (تضحك من الفرحة ) انها هي " ،وغيرها من الاحاديث التي تعكس الارتباط العاطفي الكبير ببستان الكرز، ولكن ازاء عدم التوصل لحل لمشكلة الديون بالحصول علي قرض او سلفة تضطر لوبوف رانيفسكايا الي بيع ضيعة بستان الكرز في مزاد علني ، ويكون من نصيب التاجرلوباخين شراء البستان ، حيث يشرع للتو في قطع اشجار الكرز لبناء المصايف علي ارض البستان . اصداء بيع "بستان الكرز" نلمسه في التوتر البادي في حوار الشخصيات ، في مشاعر خيبة الامل ، واسي الفقد والفراق ، والامال الضائعة ، والخوف من المستقبل المجهول . لقد التقط تشيخوف برهافة الفنان لحظة فارقة في تاريخ روسيا قبل الثورة الاولي في عام 1905، تلك الفترة من التغيرات الاجتماعيه الجذرية حين كانت الطبقة الاقطاعية النبيلة تعيش زمن افولها ، وضياع ثروتها ، وجاهها ، وثقافتها المميزة ، ليحل محلها طبقة أخري من الاثرياء الجدد من التجار ورجال الاعمال ممثلي البرجوازية الرأسمالية ، وهي فترة تاريخية عاشتها مجتمعات عده ،ونفس نموذج التاجر لوباخين الذي يشتري ضيعة بستان الكرز ويقوم بهدمها لتبوير الارض وبناء فيلل للمصطافين هو نموذج نجده هنا ، وهناك فمن أجل الثروة دونما أي اعتبار آخر تهدم القصور التاريخية التي تمثل موروثا ثقافيا لتقام في مكانها ناطحات السحاب ، ويعتدي علي الارض الخضراء مصدر النماء وتبور من أجل البناء ، وتحول الاراضي المخصصه للاستصلاح الي منتجعات . مسرحية " بستان الكرز " مسرحية الي جانب طابعها الكوميدي تتسم بعناصر الدراما التي تظهر في اللقطات التي تعبر عن زوال بستان الكرز الذي يرمز الي زوال طبقة وحقبة : صورة مصغرة لروسيا كلها . وتتسم المسرحية بشكل عام بالعمق النفسي في تصوير مشاعر الشخصيات ، وهي سمة قرينة الصلة بمؤلفات تشيخوف بعامة ، وهي مشاعر وان بدت مرتبطة بشخوص المسرحية ، الا انها تجسيد لمشاعر انسانية عامة ، فالحنين الي الوطن ، والي الاماكن التي ارتبطت بذكريات الطفولة والصبا ، والحب غير المحقق ، والتوق الي حياة افضل ، والجشع ،وغيرها تعد مشاعر ذات بعد انساني عام . ويبدو ان هذا البعد الانساني العام ، بالاضافة الي تصوير طبيعة المراحل التحولية كان السبب وراء اتجاه المخرج والممثل اللبناني كارلوس شاهين الي "لبننة " مسرحية " بستان الكرز" في العرض المسرحي الذي يقدم في مسرح المدينة في بيروت منذ اكتوبر الماضي ويلاقي نجاحا كبيرا . لم اشاهد العرض لكني قرأت عنه . لقد احتفظ المخرج اللبناني بالخط الرئيسي لموضوع "بستان تالكرز" الا وهو بيع ضيعة " بستان الكرز " التي تبيعها الاقطاعية العائدة من فرنسا من اجل سداد الديون ، وانتقال ملكيتها الي رجل الاعمال الذي يشرع في نزع اشجار البستان وتبويره لبناء مصايف. استبدل المخرج كارلوس شاهين اسماء عربية بالاسماء الروسية ، فمثلا الاقطاعية لوبوف رانيفسكايا هي الشيخة ليلي في العرض اللبناني ، والتاجر لوباخين في النص الروسي هو رجل الاعمال سليم في العرض اللبناني وغيرها من الشخصيات ، وبستان الكرز يقع في الريف اللبناني . لقد استهدف العرض اللبناني لمسرحية " بستان الكرز " تقديم صورة موازية لعملية التغيير في الواقع ، وما تبعه من تغير في التركيبه الاجتماعيه ،وانماط الثقافة في المجتمع والتي قدمها تشيخوف عن الواقع في روسيا ماقبل ثورة 1905 في روسيا ، ولكن علي ارضية الواقع اللبناني في الخمسينيات من القرن الماضي ، وقد اشار المخرج اللبناني الي ان قصة الاقطاعية في مسرحية تشيخوف تذكره بقصة امه التي تنتمي الي عائلة اقطاعية افلست. مسرحية تشيخوف في تعبيرها الصادق عن المشاعر الانسانية ، والتقاطها نبض التغيرات الاجتماعية تعيش حياة متجددة علي خشبة مسرح المدينة في بيروت ، وهذه شهادة جديدة علي عالمية" بستان الكرز " .