حملته أقدامه المرتعشة خارج البوابة وقد تعب من ملاحقة الأيام التي ركبها عفريت.. كان فارع الطول.. بدا ذابل الوجه حاسر الرأس كليل النظرات وقد أنهكه الشوق للأحفاد وهو يجفف العرق المتسلل إلي وجهه.. لم يجد أحدا في انتظاره حتي ابنته ابتسام.. تسارعت أنفاسه وهمساتهم تقول الكثير عن المال والبنين.. تراوده الخواطر وحكمة حفظها (ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط).. .. إنك لا تدري ماذا أحدثوا من بعدك .. ؟ .. صدقهم لحظة فلعن الحياة وعلامات الاستفهام لا تتوقف: .. وكيف ستعيش الآن..؟ أدار رأسه وحاولت عيناه تخطي الأكتاف العريضة لذلك الرجل الرابض علي يمين البوابة، بينما منعته بقوة تكشيرة واضحة من الحارس الآخر.. تشكك في وساوسه برهة فشعر بخيوط الماضي تشده والجدران تناديه.. تراجع.. نصف استدارة ثم حرك رأسه ببطء وهو يرفع يده ليداري أشعة الشمس المنطلقة بلا قيود.. أعاد فتح عينيه ليتأكد أنها الشمس التي افتقدها طويلا وقد شعر بتغير رائحة الهواء من حوله.. هز رأسه ثم تابع أشعتها الممتدة وقد ساد السكون.. من خلف نظرات الحراس الفاحصة تسللت نظراته تستكشف المكان، كان العصفور هناك يرفرف بجناحيه فوق البوابة.. حاول إخراج الدهشة وقد امتلكته رغبة قوية في الجري.. أرخي يديه فسقطت أشياء كثيرة من بينها.. كتم صفيرا راوده .. حرك شفتيه ولم يسمع همسا.. تجاهل نظرات الحراس، واللافتة المعلقة ، وطرقع أصابعه، وأصاخ السمع عبر الفضاء الرحب، واستنشق الهواء بقوة وترك لقدميه الحرية. وتوقف النباح .. توقفت قناعة الأسرة عند مشاهدة الأفلام العربية أبيض وأسود، بينما كانت نسمة تتسلل إلي القصر الأبيض الكبير لمشاهدتها بالألوان.. وقد يمتد الأمر فتشاهد القنوات الفضائية العربية والأوربية أيضا ومن وراء ظهر الباشا أحيانا.. الشمس تزحف.. تئن وهي تميل إلي الغروب ومن بعيد يبدو القصر كمنظر طبيعي في لوحة فنان تأثيري، بأضوائه الخافتة وأشجاره العتيقة والمتناثرة وراء السور لتضفي مزيدا من الرقي والجمال علي المشهد. من الداخل كان المنظر أكثر جمالا ورقيا، قطع الأثاث المختارة بعناية واللوحات البديعة ،بينما أزاح عم عبده شجيرات الصبار جانبا وقد جلس مذهولا عند مدخل الطرف الشرقي من حديقة البستان ونباح الكلاب لا يتوقف.. تسكن الفراشات زهورها وتطوي زهرة عباد الشمس أوراقها.. حركة قلقة بالداخل.. أزاح الرجل شجيرات الصبار جانبا، زاد إحساسه بظلال موحشة تكسو جدرانه، ثم جلس مذهولا بعد أن تعب من البحث عن ظلال أحلام قديمة رسمها الأولاد.. أمسك بجبهته يهزها بعنف ليهرب الخوف المتسربل داخله.. يبتلع الهواء دفعة واحدة.. يتحرك خطوات وقد لامست قدماه لوحة حجرية متآكلة من الطريق القديم إلي نافورة القصر وقد استطال ظله إلي هناك.. هز رأسه لا يصدق أذنيه وقد جحظت عيناه أمام بطن ابنته المنتفخ وقد التصقت نسمة بالركن القريب وهي ترتجف بخوف متئد.. يضرب كفا بكف وهو ينفخ الهواء بشدة.. يا أولاد الكلب.. مين اللي عملها..؟ رددها بجزع مستقر في أعماقه.. تموج الرؤي ويخبو البصر بين بصيص ضوء وظلالات تتحرك هنا وهناك، ينزاح الباب ويتقدم سكرتير الباشا خطوة.. الباشا زعلان جدا. ثم يتراجع مشيرا بيده لتغادر الأسرة المكان.. عطس ثم ألقي بحزمة الأوراق المالية في الهواء.. وقد توقفت الكلاب عن النباح.. استدار ظله والمطر ينقر برذاذه المكان.. وأصابع عبده ترتعش وهو يبحث بدون جدوي عن العقرب تحت إبطه.. ضج السكون فانحني عبده والتقط النقود في طريقه لشراء المسدس 2- رجل وكلب .. أغلق أذنيه والأقدام الغليظة تبتعد.. من وسط الصمت تسربت منها كلمات جدته.. .. (اللي مالوش ضهر).. .. سحب قدميه إلي هناك.. .. نهض متحاملا علي يديه وقدميه والباب ينفتح.. سار الصمت طويلا قبل أن يظهر الرجل الآخر.. ارتبكت ذرات الهواء مع ظهوره المباغت.. ما زال الرجل النحيل يداعب شاربه الكث علي مهل، ثم أدار وجهه الباسم نحوه.. .. كانت السنة الذهبية تزداد لمعانا وكلاهما يتفحص شيئا ما. .. لم يستطع أن يصمد أمام نظرات الرجل أو أن يرفع عينيه عن الحذاء الذي كان بريقه لا يترك له فرصة.. تنحنح الرجل وقد رفع الدولار بإصبعين أمام عينيه فعزفت موسيقي الرموش لحنها الخاص وتبعتها الشفتان ، وسرت في الجو رائحة خاصة، ثم أشار بإصبعه المتأرجح إشارة ذات مغزي...! .. طأطأ الرجل حليق الشارب رأسه فانكشفت المنطقة الخالية من الشعر وقد أرهف أذنيه لسماع التعليمات الجديدة، عيناه لا تفارقان ظل الخاتم الذهبي وبينهما الدولار منتصبا...! .. سارت قدماه في طريقه الذي رسمه الرجل الباسم. .. كان قد أعطي لأفكاره أجازة طويلة قبل أن يدفن حكايات جدته فقد دار الزمن دورته...! .. يهز رأسه وقد فشل في تلميع الحذاء مثل الرجل الباسم.. أخرج ساعته من جيب السترة مع ابتسامة القمر التي تأخرت كثيرا هذه الليلة.. لعن الحذاء واستدار في طريق العودة.. أمام باب منزله لمح الكلب يتبول ثم يعلو نباحه. شدت أذنيه ضحكة الجدة: ان جالك الطوفان.. تجنب النظر إلي عيني الكلب.. هرش منطقة الشعر الخالية.. تمهل ثم انحرف قليلا ودلف من الباب. .. كانت امرأته بالداخل منكوشة الشعر تخفي وجهها بين ركبتيها وقد أغرق نحيبها المكان .. دس يده في جيبه وبالأخري أغلق الباب وقد علا جدار السكون.