ليس عجبا أن أشتغل "كودية" خصوصا إذا علمتم أن الكودية كانت فيما مضي امرأة، ولكن هذه الحرفة انتقلت إلي الرجال منذ نحو خمسة عشر عاما وكنت قد عالجت علوما كثيرة غير مادرسنا في مدرسة الحقوق وما قبلها من المدارس، ومن ذلك علم النفس العملي، والتنويم المغناطيسي، واستحضار الارواح، ومعالجة الامراض العصبية، وفنون الايحاء والوهم، وانتقلت من ذلك التنجيم والسحر وعلم الحرف و "الكبالة" أي علم الحروف اليهودية، وألعاب الحواة وقد وصلت في هذا كله إلي نتائج عملية جدية بل إن ماتعلمته من هذه الألعاب أنقذني من مصيبة لم يكن يعرف مداها إلا الله، فقد أحاط بي في الترام في سنة 1919 عدد من الجنود ذوي الوجوه الحمراء والعيون الزرقاء، وجنود الامبرطورية "المرنة" وأردت النزول عند الحلمية فمنعوني بالقوة من النزول وأفهموني أنهم سيأخذونني إلي القلعة، ولا أدري ماذا كانوا ينوون أن يصنعوا بي؟ وهل كان في النيه اعتباري أسير حرب أم شيئا آخر، وكنت دائما أحمل عدد اللعب فارتجلت لهم ألعابا أدهشتهم كإخراج النار من بين شفتي! أو كنت أخرج من فمي أعلاما صغيرة جميلة الألوان، مصرية وبريطانية وألمانية وفرنسية، وجعلوا يتخاطفونها معجبين مسرورين، وفي انشغالهم بالضحك والخطف، قفزت من الترام وهو في أقصي سرعة، ولم يصبني سوء، فقد كنت يومئذ طالبا في مقتبل العمر وكنت نشطا خفيف الحركات ولا تسألني عن الألعاب ما طريقتها فذلك سر المهنة ولن أفشيه! وجاءني في يوم رجل يشتغل "كودية" يطلب إلي الدفاع عن قريب له متهم بقتل فترافعت عنه أمام الجنايات فظفرت له بالبراءة ثم رفضت أن أتقاضي الاتعاب نقدا وقلت للرجل: أتعابي هي أن تعلمني أسرار صناعة "الكودية" فقبل بعد أن طلب مني قسما غليظا بألا أبوح بسره والآن وقد مات الرجل لم يبق له سر ولا علن فأنا في حل من اليمين ولكن بقدر..! ولم تكن هذه أول خطوة خطوتها في السبيل بل لقد فكرت قبل ذلك في معالجة "الزار" عمليا وكان ذلك منذ أكثر من عشرين سنة فذهبت إلي حفلة زار وكانت الكودية في ذلك الحين امرأة سودانية في أغلب الأحيان اتفقت مع بعض من لهم صلة بالحفله علي أن أختبئ في مكان ما وقد سمعت النغمات ورأيت كل الاجراء وما يحدث للنساء وما يحدثه من حركات فتشنجت عمدا مقلدا هذه الحركات وهي الصعود والهبوط والارتجاج والتثني والترنح وأفلحت في التقليد فجاءت الكودية وفحصتني وقال "عليه الجن الاحمر" وأمرت بدق الطبل دقا عنيفا ودخلت بين النساء في هرجهن ومضيت في الحركات الهائجة وأخذ يعتني بمعالجتي عدد من الجميلات الرشيقات. وبالغن في الاشفاق علي خصوصا حين أصابني الاغماء فجئن بالماء ورششنه علي وجهي ففتحت عيني ويظهر ان ابتسامة بدت علي شفتي فأدركن أن حركاتي كانت كلها افتعالا. فارتج المكان بضحكاتهن الرنانة وساد المرح والدعابة. تطور الزار بعد ذلك وصار "الكودية" رجلا بعد أن كان امرأة ولما أتيحت إلي صداقة الكودية قريب القاتل المبرأ أخذ الرجل يعدني تلميذا من احب تلاميذه اليه. والأصل في الكودية الرجل أن يكون شابا وسيم الطلعة ممتلئا صحة وقوة بل يجب أن تكون قوته الجسدية هائلة خارقة للعادة وكذلك كان صاحبي واستاذي وكانت له عند النساء من جميع طبقاتهن وأعمارهن هيبة عالية ومحبته تجعلهن يتنافسن في التودد اليه ومهمة الكودية هي معالجة المريضة بالهستريا أو النورسناينا بعد أن يستعصي علي الطب علاجها ويثبت في الأذهان أن "عليها عفاريت"! وأنه لا دواء إلا الزار هذه هي الناحية الظاهرة من المهنة أما النواحي الباطنة فلا يجوز لي أن أبوح بها وللقارئ الفطن أن يدركها من ثنايا الحديث والكودية قبل أن يأمر الزار تعرض عليه المريضة فيفحصها فحصا وافيا ثم يقرر أن "الأسياد" غاضبون لأن السيدة أو الانسة ارتكبت غلطاً ماذا تكون هذه الغلظات؟ لعلها نذرت فلم توف بالنذر.. أو لعلها ارتضت زوجا غير موفق أو لعلها أحبت من لايستحق الحب ثم يعرض عليها أقامة الزار لإخراج العفاريت فتوافق ويقدم لها بيانا بما يطلبه الاسياد ويختلف مايطلبونه بحسب فقر الزبونة أو غناها وقد تسألني لماذا تدخل العفاريت أجسام النساء وحدهن. ولا تدخل أجسام الرجال فأجيب بأن العفاريت فيما عرفت وجربت هم النساء لاسواهن! وكل الرجال عليهم عفاريت من النساء طبعا! وكل ما يطلب من الزبونة الفقيرة ديك أبيض لا إشارة فيه أو زوج حمام ذكر وأنثي بني اللون. أما الغنية القادرة فيطلب منها جمل ذو أوصاف خاصة أو خروف أحمر وفي جبهته اشارة بيضاء أو عجل له مميزات معينة أو كل هؤلاء ثم مالا يحصي من الديوك الرومية والفراخ والحمام واليمام ثم يصف الكودية للمريضة ملابس معينة باهظة النفقات منها ماهو للجن الأحمر ومنها ماهو للجن الصياد ومع هذه الملابس مصوغات غالية ذات رسوم وصفات معينة، والكودية هو الموكل بأخذ هذه الأشياء جميعا لتوصيلها إلي الاسياد وإذا ذبح من هذه الذبائح شئ فلا يجوز لانسان أن يقرب لحمها لأنه يذهب إلي الاسياد بواسطة الكودية ايضا وبالطريقة الخاصة التي هي سر بينه وبين الجن وبجانب كل ماذكرنا مقادير من الشموع والعطور وأنواع البخور ثم النقل والحلوي المختلفة الالوان، وتبدأ الحفلة بدخول الكودية بين النساء ومن حوله رجال معينون هم حاشية أعوانه، وأنا منهم، ويجب أن يتوافر فيهم ما يتوافر فيه من وسامة وشباب متوقد وقوة جسمانية هائلة، والكل بطراطير وملابس تلقي الرهبة في النفوس ويطلق البخور، وتلقي الرقي والتعاويذ، ثم تبدأ "الزفة" حول الجمل المزين زينة بديعة وقد ألبس الحلل والقصب والمزركشات ويركب "الكودية" الجمل وهو في زي ممتاز عن أزيائنا فهو في لباس عربي بديع، وبيده السيف، وتمسك المريضة بمقود الجمل ونقف نحن وبأيدينا الدفوف والطبول والمزامير والصاجات. والظريف أنك تجد علي باب البيت الذي تدار فيه حفلة الزار "وهو في الغالب بيت الكودية نفسه لأنه يحمل ترخيصا بصناعته هذه" سيارات حكومية وحجابا رسميين وندق نحن الطبل وتبدأ المدعوات في الرقص تحية للزار وتزاملهن في هذا الرقص وكل منا يحمل سيفا ثم "نتبارز" ونهاية المبارزة أن يحتضن بعضنا بعضا دون تفرقة بين رجل وامرأة مع استمرار الرقص وتفاقم حالة الهياج والهيمان وينزل الكودية بعد فترة، ويبدأ دق الطبول بأعنف مايكون، ويدور الرقص مرة أخري ويلف الكودية حول الجمل ثم يقف فتتقدم السيدات تقبل كل منهن جزءا من جسمه الفاره. ثم تتوالي الزفات، فيزف العجل ثم الخروف ولكل واحده من هذه الزفات قواعدها ومظاهرها وقد تركب المريضة العجل أو الخروف وتتعدد المناظر حسبما يرسم الكودية وفي العادة تستمر عملية الزار يومين بثلاث ليال ويجب أن تبيت المريضة بمنزل الكودية هي وبعض المقربات اليها. وبعد انتهاء الحفلة تدور عملية "الخلوة" وهي في بيت الكودية طبعا، في الدور العلوي. وفي هذا الدور أربع غرف أو خمس في كل منها سرير فتصعد المقربات وتبدأ عملية "التدليك الفني" ويقوم بها الكودية نفسه، مع خلوة بينه وبين المريضة غالبا. ومن المألوف الذي عرفته وشاهدته. أن كثيرات من المرضي يتزوجن الكودية أو أحد رجاله ولكل كودية أربع زوجات دائما فإذا طلقت أو توفيت أحداهن ملئ مكانها حتما بزوجة أخري. وكثيرا ماتقع بين الصديقات عداوات ومشاحنات بسبب الكودية والتنافس علي رضاه وإلي هنا لا استطيع المضي في الحديث لأني حريص علي السر وعلي الآداب العامة... ولقد اشتركت في هذه العملية مرات وتعلمت كل فنونها خصوصا فن التدليك الفني ومع ذلك كله اعتبر أنني لم أنجح ولذلك استقلت!