الإسكندرية مدينة غير عادية، فقد تم اختيارها في مؤتمر عالمي عن المدن - كأفضل مدينة علي مر العصور، وكانت قرطبة في المرتبة الثانية، ونيويورك الأمريكية في المرتبة الثالثة. وذلك ليس غريباً علي الإسكندرية مدينة الفن والجمال وصانعة الحضارة، وفي ذلك يقول الأستاذ: أحمد لطفي السيد أستاذ الجيل في خطبة له في الإسكندرية، نُشرت في العدد 445 من " الجريدة " الصادر في 23 أغسطس 1908:" الإسكندرية عنوان مصر الجغرافي، كذلك الإسكندريون هم عنوان المصريين في جميع الحركات الفكرية، وطليعة رسل التمدن إلي جوف الأمة المصرية" كنتُ أحب الشاعر الباحث المرحوم عبد العليم القباني، فقد جمعتنا معا هواية البحث عن تاريخ الأحياء والشوارع في الإسكندرية، خاصة أنه كان مقرر لجنة تسمية شوارع الإسكندرية. كنت أتصل به تليفونيا واسأله عن سبب تسمية الحي الفلاني باسم كذا، والشارع الفلاني باسم كذا ونتحدث طويلا، وأقول له: - خايف تكون متضايق من أسئلتي الكثيرة. فيقول بحماس: هو أنا لاقي حد بيهتم بالمواضيع دي كده. سألته عن اسم " سوق عقداية "، وهو الحي الذي وُلدت فيه، فأخبرني بأن عقداية كانت امرأة جميلة، يهواها الرجال، فيأتون إليها من القري والمدن التي يسكنونها، حاملين إليها الهدايا، ثم فرشوا أمام بيتها خضارا وفاكهة وأشياء أخري يأتون بها من بلادهم، عارضين إياه للبيع، فتكوَّن حول بيتها سوق، سمي باسمها ( سوق عقداية ). جاء والدي وإخوته الأربعة من الصعيد بحثاً عن لقمة العيش، فاشتري لهم أقاربهم الذين سبقوهم إلي الإسكندرية بيتاً في سوق عقداية، في شارع ابن الهايم الذي يبدأ من شارع الملك الأشرف، وينتهي عند شارع مسجد سلطان. واكتشف أبي وإخوته أن هذا الحي يشتهر بتجارة المخدارات، كانوا يطلقون علي بيتنا: بيت الصعايدة، ويأتي الضباط للبحث عن باعة المخدرات، فلا ينظرون إلي هذا البيت لأنهم يعلمون أن سكانه ليس لهم في هذه التجارة. وانتقلنا إلي حي راغب باشا في عام 1956 بعد موت أمي المفاجئ، وظل باقي أعمامي في البيت، وسمعت عن حادثة هجوم ضابط شرطة اسمه السباعي علي الحي، وقَبض علي تاجر مخدرات اسمه زغلول، فقاومه أهل المنطقة وخلصوا زغلول منه، ودارت معركة، أصيب فيها السباعي بطلق ناري في ساقه، وتحدثت اسرائيل عن هذا الحادث، فقالوا لعبد الناصر عبر إذاعتها الموجهة باللغة العربية - : أنت مش قادر علي حي صغير اسمه سوق عقداية فهاجمت الشرطة الحي، وأغلقوا المتاجر. كتب صلاح عيسي كتابه " رجال ريا وسكنة "، كتبه من خلال ما نشرته الصحف عن الحادثة، ومن خلال أوراق التحقيقات في القضية، فأحسست بأنه يتحدث عن عالم أقرب مني إليه، فهو ينقل المنشور في الصحف أو التحقيقات، دون أن يعرف أين هذه الأماكن، فقد تم قتل امرأة تسكن شارع 12، وكانت معها ابنتها، فأعطوا البنت نقوداً لكي تعود إلي البيت؛ وتفرغوا لسرقة الأم وقتلها. وأنا أعرف شارع 12 جيدا،( كانت الشوارع تسمي بعرض مساحتها، وتغيرت أسماء الشوارع، وزالت الأرقام، لكن بقي شارعان في حي كرموز مازالا يعرفان باسم شارع 8 وشارع 12. عرفت صاحب الاسم الحقيقي لشارع 8، وهو إبراهيم نجيب، وكان محافظا للإسكندرية في المدة من 2 أكتوبر 1893 12 أكتوبر 1894 لكنني للأسف لا أعرف من هو يوسف الحكيم الذي سمي شارع 12 باسمه،. وهو يبدأ من شارع راغب باشا وينتهي عند شارع النيل) وحسب الله زوج ريا رأي فتاة وهو جالس قريبا من جامع سلطان، فأعجبته وتزوجها، وسكن بها في شارع العمري، وقد وُلدت في شارع في نهايته جامع سلطان، كما أن شارع العمري قريب من بيتي، وأمر فيه كثيرا، وهو يبدأ من شارع جامع سلطان، وينتهي قبل ترعة المحمودية بقليل. وأول ضحايا ريا وسكينة، كانت تسكن كوم الشقافة، وزوجها يمتلك محلاً للبقالة في مواجهة سور عمود السواري، امرأة معروفة بحسن سيرتها في المنطقة التي تسكنها، فكانت تتواري خلف غطاء وجهها، وتذهب إلي ريا وسكينة، لتريح نفسيتها بالشرب ومعاشرة الرجال بعد موت ابنتها الشابة، وتعود قبل عودة زوجها وأولادها من دكان البقالة، فيجدون الطعام، ويمر اليوم في هدوء، وكان من الممكن أن يحدث هذا إلي أن تموت المرأة موتة ربنا، لكن قتلها؛ فضحها، وكشف سرها، وفضح زوجها وابناءها. أمر كثيرا أمام عمود السواري، فأبحث عن المكان الذي كان يقع فيه دكان البقال زوج المرأة التي قتلتها ريا وسكينة، فقد تحولت كل المحلات هناك ذ تقريبا - إلي باعة ملابس وأقمشة. سكنا في بيت كان أبي قد اشتراه منذ سنوات دون أن نسكنه ( والصعايدة يهتمون كثيرا بأن يمتلكوا بيوتا في المدن التي ينتقلون إليها ) فضل أبي أن ننتقل إلي هذا البيت لأنه قريب من بيت جدتي ( أم أمي) التي تسكن حي غربال. وراغب ذ الذي سمي الحي باسمه - كان موظفاً صغيرًا لدي محمد علي باشا، وذات ليلة رأي محمد علي ضوءًا ساطعا من مكان موظفيه، فذهب إليه، فوجد هذا الشاب يعمل وحده، فسأله: - لماذا تعمل في هذا الوقت المتأخر من الليل؟ فقال : أعد الأوراق التي سيعرضها رئيسي علي سيادتكم في الغد. فقال له : من الغد، أنت الذي ستعرض عليّ الأوراق. ومن هنا بدأ نجم راغب يسطع، وبعد موت محمد علي حصل علي رتبة الباشوية، وأصبح ناظر النظار ( أي رئيس الوزراء ) وأهداه أحد الحكام أرضاً في الإسكندرية، كانت أراضي زراعية، ثم تحولت إلي أراضي بناء، وبيتنا الذي نعيش فيه الآن، اشتراه مالكه الأول وهو بدوي من الواحات اسمه الشيخ مبروك - من دائرة إدريس بك راغب بمبلغ 35 جنيها و37 قرشاً، وسافر الشيخ مبروك إلي القاهرة، ليتفق مع التجار في بولاق، ليرسلوا إليه ذ عبر المراكب ذ الطوب ولوازم المعمار ليبني بيته، وكان ينتظر المركب بجوار كوبري راغب باشا، الذي يُفتح في موعد معين لمرور المراكب، ثم يعيدونه ثانية لمرور المارة والسيارات، سمي الحي باسم راغب باشا، لأن شارعا كبيرا باسمه، يبدأ من باب عمر باشا في شارع الخديو، وينتهي عند الكوبري . وهذا الشارع يفصل بين حي محرم بك، وحي كرموز. ارتبطتُ أكثر بحي غربال الذي تسكنه جدتي، خاصة بعد موت أمي، فقد كنت وإخوتي نقضي معظم الوقت لديها، إلي أن تزوج والدي عام 1957، وغربال باشا كان اقطاعياً يمتلك الأراضي كلها، وكانت السواقي تنقل المياه من ترعة المحمودية إلي الأراضي الزراعية، ثم حولها إلي أرض بناء، وباعها بسعر زهيد، فتجمع أهالي بلدتنا ذ المراغة التابعة لمحافظة سوهاج، واشتروا الأراضي، وسكنوا متجاورين كما هو الحال في بلدتهم بالصعيد. وتقدم للانتخابات عام 1957 ( أول انتخابات برلمانية بعد ثورة يوليو 52 ) أحد ابناء بلدتنا، فأضاف إلي اسمه لقب ( المراغي)، وتقدم لمنافسته تاجر كبير قريب للدكتور عبد القادر حاتم، لكن الكثافة السكانية لأهالي المراغة جعلت ابن بلدتهم، ينجح، وقد كتبتُ عن هذه التجربة روايتي ( الجهيني ). وقد كان أبي يُفضل الجلوس علي قهوة في حي جبل ناعسة، وكنتُ أذهب إليه فيها، كما أن مُدرستي الخصوصية كانت تسكن هذا الحي، وناعسة التي ارتبط الحي باسمها كانت امرأة أعرابية تسرح بالغنم في الجبل، فارتبط باسمها. وقد شاهدتُ دكان ابنائها الذي كانوا يبيعون فيه اللحم. واشتهر هذا الحي بتجارة المخدرات، والكثير من القاهريين يعرفون هذا الحي، وتم القبض علي بعض الممثلين المشهورين وهم يتناولون المخدرات في حواريه.وقد كتبتُ روايتي " جبل ناعسة " من خلال خبرتي ومعرفتي بحواريه وأزقته. كتب نجيب محفوظ روايته "اللص والكلاب" عن سفاح اسكندرية المشهور محمود أمين سليمان. واكتشفتُ أن الكثير من السفاحين ظهروا في الإسكندرية، في مدة وجيزة. ظهرت ريا وسكينة في عشرينيات القرن الماضي. فكتب البعض عنهما، نجيب محفوظ كتب سيناريو الفيلم المأخوذ عن حياتهما لتحقيق لصحفي يعمل في الأهرام اسمه لطفي عثمان؛ وأخرج الفيلم صلاح أبو سيف.ثم كتب بهجت قمر مسرحيته الكوميدية ريا وسكينة. ثم ظهر سعد إسكندر سفاح كرموز.وكُتبتْ عنه بعض الأعمال وإن كانت لم ترق إلي مستوي ما كُتب عن ريا وسكينة. وظهر محمد عبد العزيز وأحمد علي حسن اللذان كانا يعملان في مشتل محطة السكة الحديد في الإسكندرية، وكانا يصطادان السائرين أمامهما في منطقة " المناورة " التي يندر مرور الناس فيها؛ فيأخذان نقودهم ثم يقتلونهم ويدفنونهم في المشتل. وقد شهدت عليهما امرأة تسكن في بيت عالي خلف محطة السكة الحديد، رأتهما يفعلان ذلك، وتم القبض عليهما وأعدما. وظهر حسن قناوي الذي كان يعمل مع بعض الإقطاعيين، فيجندونه للقتل لحسابهم، وتم القبض عليه في جريمة الشلالات الشهيرة، ولم يحكم عليه القاضي الخازندار، بالإعدام، فقد تم إنقاذ المجني عليه، ولم تثبت إدانة قناوي في الجرائم السابقة. وفي أواخر خمسينيات القرن العشرين ظهر آخر السفاحين السكندريين محمود أمين سليمان الذي كتب عنه ألفريد فرج ونجيب محفوظ وغيرهما. حي بحري حي عجيب، يجمع بين الشعبية والارستقراطية، ففيه الصيادين الفقراء، وفيه تجار أثرياء، وفيه لاعبو الكرة الكبار، وفنانون، وباشوات، وفيه المساجد الكبيرة والأضرحة.كنتُ أذهب إليه كثيرا، مرات عديدة في الأسبوع. كتبتُ عنه روايتي اسكندرية 67، وهي تتحدث عن حادثة حقيقية حدثت في يونيه 67، فقد أرادت اسرائيل أن تضرب مطاراتنا الجوية، والميناء العسكري في الإسكندرية في وقت واحد، فأرسلت غواصة اسمها التمساح، وألقت بالضفادع البشرية، لكن سفينة حربية مصرية اكتشفت الغواصة وضربتها، واستطاعت الغواصة رغم ما بها من عطب؛ أن تصل إلي ميناء حيفا في اسرائيل من دون الضفادع البشرية التي ألقت بهم في المياه المصرية. دخل الضفادع قلعة قايتباي التي كانت مهجورة في ذلك الوقت فرآهم ابن صياد اعتاد دخول القلعة ليلعب فيها، فأشاع خبر وجودهم، مما حدا بأهالي الإسكندرية للخروج لمطاردتهم، اثنان من الضفادع ارتديا ملابس الدكرون، وسارا في شارع السيالة، فتم القبض عليهما، والآخرون ذهبوا إلي طبيب في شارع التتويج اسمه " دافيد منشا أوزر "، عيادته كانت أمام محطة ترام القويري، فأدخلهم العيادة، ثم حملهم بسيارته ليوصلهم إلي السلوم، فيتسلمهم رجال من قاعدة هويلس بليبيا، لكن عند إشارة مرور حديقة سعد زغلول، تجمع المارة حول السيارة واكتشفوا وجودهم، فتم القبض عليهم، وضموهم إلي الاثنين الآخرين، وتم إعادتهم إلي إسرائيل في عملية تبادل الأسري. في يوم وقفة العيدين، يتجمع الأدباء السكندريون، وزملاؤهم الذين يعيشون خارج الإسكندرية، وتجمعنا في هذا اليوم في أحد المقاهي، ثم بدأ البعض في العودة إلي بيوتهم، ولم يتبق سوي : محمد السيد عيد، ومحمد محمود عبد الرازق ( وهو قاهري ارتبط بالإسكندرية ) ومحمد عبد الله عيسي، وأنا. أخذنا نتحدث عن سينمات الإسكندرية وما حدث لنا فيها، ومن حماسنا في الحديث، لم نحس إلا والقهوة قد أطفأت بعض مصابيحها استعدادا للغلق، فقمنا مضطرين، وركب محمد محمود عبد الرازق سيارة محمد السيد عيد، لكي يوصله إلي بيت أهل زوجته في سبورتنج، لكن السيارة لم تتحرك من مكانها، دفعناها للأمام دون فائدة، لكننا وجدنا أنفسنا أمام قهوة حميدو بشارع الغرفة التجارية، فجلسنا فيها لنكمل الحديث، ومر الوقت، ثم قمنا ثانية، لكن السيارة أصرت علي عدم التحرك، فدفعناها إلي شارع الشهداء، فوجدنا قهوة أخري تسهر للصباح، فبقينا فيها نتحدث عن السينمات إلي أن أشرقت شمس الصباح التالي. ذلك جعلني أفكر في كتابة رواية عن سينمات الإسكندرية، خاصة الدرجة الثالثة، والدرجة الثانية. كتبتُ عن حي الهماميل، ( هناك شارع بين المنشية واللبان، يحمل اسم الهماميل، في مواجهة مسجد رمضان شحاتة ) وهذا الحي كان مركزا للدعارة الراقية أيام الاحتلال الإنجليزي لمصر، ففي شارع الفراهدة وشارع ابن بطوطة والقاضي الفاضل وغيرها مكان للدعارة الفقيرة والمسماه ب" الكومبكير "، بينما ضباط الإنجليز ومن هم علي شاكلتهم، يذهبون للهماميل. ولكي يحموهم أقاموا هناك نقطة شرطة. والهماميل هي قواديس السواقي التي كانت تصنع في ورش هذا الحي. وكانت مقرا لاجتماع جمعية التضامن الأخوي التي كانت تغتال الإنجليز وأعوانهم، وحاولت قتل السلطان حسين كامل لأنه قبل الحكم تحت رغبة الإنجليز الذين أقالوا ابن أخيه الخديو عباس حلمي عام 1914، لأنه ميال للدولة العثمانية التي كانت في حرب معهم. وألقوا بقنبلة علي سيارة السلطان حسين كامل أمام ضريح سيدي يوسف الجعراني في شارع رأس التين، وهو ذاهب لصلاة الجمعة في مسجد أبو العباس المرسي. لكن القنبلة لم تنفجر.