فى بهو كافيتريا جروبى العتيق تحتاج أن تنزل فى سلم ملتوى مكون من 17 درجا تنتقل من واحد إلى الآخر وأنت تنظر لتجد لمسات الخواجات مازالت لم تغادر مصر ولم يشوهها سوى بعض الدهانات الجديدة التى تحاول ترميم المكان بعد سنوات طويلة مرت على المكان حتى تصل إلى عم خليل الذى يبدوا كامتداد لهذا السلم الذى أتى من زمن لم يعشه معظمنا يجلس ويشاهد تغيرات الزمن الجديد بدافع الاطمئنان على بلاده، وبالرغم من أنه لم يتركها ولو لفترة قصيرة، إلا أنه يعيش فى "زمن الخواجات". 44 عاما لم يخرج فيها خليل داخر خليل صاحب ال66 عاما من بهو الخواجات سوى للنوم فى منزله ثم العودة مرة أخرى لعمله الذى يبدأ فى التاسعة صباحا وينتهى فى الواحدة بعد منتصف الليل لتنظيف المكان وطوال هذا العمر كان يراقب الرجل انتكاسات مصر الواحدة تلو الأخرى بغضب وحزن ويأس، متمنيا أن يعود الزمن الذى تربى فيه وخرج منه والذى مازال يراه أجمل أيام حياته. يا ابنى بلدنا كانت نضيفه قوى، والخواجات عمرهم ما سرقونا ولا كلوا عرقنا ذى اللى ماسكين البلد دلوقتى.. يحكى عم خليل من قلب بهو الخواجات أسباب حسرته على الزمن اللى فات وعلى نفسه وعلى ما آلت إليه البلاد من وجهه نظره ويتابع "كان مافيش ظلم ولا حد بيبص على ديانتك وكانت كل الناس شيك حتى لو معهاش فلوس". عم خليل خرج من قريته فى قلب صعيد مصر منذ 44 عاما وقت أن كان عمره 22 عاما وكان يعمل فلاح أجير ليخلع عباءة الزراعة ويتجه إلى أحد أصدقائه فى القاهرة والذى وجهه إلى الكافيتريا الشهيرة فى وسط المدينة ليتسلم عمله على الفور وليظل بجانب الخواجات لحوالى 12 عاما قبل أن تؤدى سياسات ثورة 52 على حد وصف الرجل إلى بيع المحل وسفر الخواجات إلى خارج البلاد ويقول عم خليل "عيشت بعدها أكثر من 30 سنة نسونى حلاوة اللى راح". "بص يا خبيبى لو الزبون جالك يبكى خليه يضحك النهاردة جاء لوحده بكرة هيجى مع أصحابه" يتذكر عم أحمد نصائح أحد أبناء الخواجة جاكومو جروبى الذى أتى من سويسرا بفكرة إنشاء جروبى ليدخل إلى مصر شكل جديد من الحياة وأنواع جديدة من الحلوى أصبحت الآن طبيعية فى حياتنا دون أن نعرف مصدرها مثل الآيس كريم والكريم شانتيه وغيرها من الحلوى الأوروبية الفاخرة، وأنشأ مكانا ثقافيا تقام فيه الحفلات الغنائية لأرقى نجوم أوروبا ويبهر ملوك العالم حيث تعتبر قصة إعجاب بنات الملك شارل ملك إنجلترا بمذاق شيكولاتة جروبى التى تناولوها فى قصر الملك فاروق وتفضيلها عن حلوى بلادهم ليرسل الملك لهن 100 كيلو من هذه الشيكولاتة هى أحدى القصص الشهيرة لهذا المكان الأثرى ويكمل الرجل أحد حكايات الخواجات وطالباتهم ويقول "كان أول اليوم يقولى يا خليل طلع لبتاع المرور اللى فى الشارع باتية وشاى علشان واقف فى الحر، كانو بيحسوا بينا وبتعبنا حتى الزباين مش زى دلوقتى بيدخلوا علشان يتخلقوا علينا". "مسيو فنسار، ومسيو زبيرو، ومسيو لوكا، ومسيو نجولا" يتذكر حامل مفاتيح وأسرار بهو الخواجات بعض أسماء الخواجات الذين تعامل معهم فى سنوات وجودهم فى مصر، ورغم الزمن الطويل الذى مر على خروجهم من البلاد قبل أن يحكى على تركهم للمكان ويقول "إحنا بكينا وزعلنا عليهم وهما كمان زعلوا علينا كانت عشرة وما هانتش علينا". ولكن لماذا يحتاج المهندس أو مصمم الكافيتريا لأن يحفر تحت الأرض مسافة تمتد على طول 17 درجا لتصميم الحمامات بشكل غريب؟ هذا هو أحد الأسرار التى يحكيها عم خليل عن زمن الخواجات ويقول "الله يرحم اللى بناه كان على الطراز الفرنسى والمفروض الناس داخلة تنبسط ما ينفعش تشم ريحة وحشة عشان كده كان عاملوه بالشكل ده، مش بقولك كانت بلدنا جميلة". عم خليل ربى "بالحلال والإخلاص" أربعة أولاد تخرج اثنان منهم بمؤهلات عليا والاثنان الآخران بمؤهلات متوسطة ليعملوا جميعا فى أعمال جيدة ولكنه على الرغم من ذلك رفض ترك عمله فى "مسح البلاط" مثلما يسميه ليرتاح كما طلبوا منه حتى لا يمد يده لأحد "طالما فيه نفس وقادر يشتغل" وحتى رفض أن يحمل موبايل ليطمئنوا عليه ويقول "عيب على شغلانتى دية إنى أبقى شايل موبايل ما ينفعش". ساكن بهو الخواجات يحلم الآن برجل مخلص يحمل هذه البلاد نحو انتصار جديد بعد سلسلة طويلة من الإخفاقات فى رأيه ويقول "قلبى بيتقطع على حال البلد كل يوم وآخر حاجة كانت ولادنا اللى ماتوا فى سيناء، نفسى فى حد مخلص ينقذ البسطاء بعيدا عن الدين اللى بيحاولوا يخلونا نولع فى بعض بسببه رغم إننا فى مصر المسيحيين بيصوموا مع المسلمين".