من سلسلة المقالات السابقة يتضح لدينا أنّ السّياسة التّنافسيّة لها مساوئ أخرى غير ملموسة يمكن تسميتها بالخسائر الرّوحانيّة. فالديمقراطيّة فى بعدها التّنافسى مبنيّة على نظريّة أن الإنسان بطبيعته أنانى ويميل إلى التّنافس، وأيضاً أن الناس يتكونون من مجموعات مختلفة لها مصالح متضاربة، وأن أفضل طريقة للحكم الديمقراطى أمام هذا التّحدّى هى إقرار عمليّة تنافس بين هذه المجموعات. تنظيم الشئون العامة على أساس هذه النظريّة يجعل من الأنانية والتّنافس صفات تتأصّل تدريجيّاً فى المجتمع، ويحول دون ترويج روح الإيثار والتعاون. المشهود فى التعاليم الدينيّة والتقاليد التربويّة بأن الأنانية والتّنافس يعتبران من بين الصفات المذمومة، فى حين أن الإيثار والتعاون من الصفات المحمودة المرغوبة، من المعلوم أنّ صفات الإنسان تتكوّن من الثقافة، ولأنّ السياسة التّنافسيّة مبنيّة على الأنانية والتّنافس فثقافتها تجعل الأنانية والتّنافس من الصفات الحميدة، طارحة جانباً صفتى الإيثار والتعاون، بذلك تكون السّياسة التّنافسيّة قد قلّبت الأولويّات وجعلت من المذموم محموداً، ومن المحمود.. لا قيمة له. تبديل الأولويات بهذه الكيفيّة ينمّى الهمجيّة فى الحديث الحزبى وفى المجتمع، لذلك أصبحت السّياسة وكأنّها ميدان حرب تستعمل فيه الألفاظ غير الخلاّقة للوجدان البشرى الذى خلقه الله سبحانه وتعالى عليه، ف"الحملات" الانتخابيّة، و"خوض" "معركة" و"صراع" الانتخابات، و"حرب الكلام"، و"المواقف الحصينة"، كلها عبارات تردّى للخطاب السّياسى، لها انعكاساتها القاتمة على الجو الاجتماعى. النقاش والمناظرة فى أى ميدان أو موضوع، هو عبارة عن تبادل وجهات النظر حول الآراء والأفكار، ليس حول الأشخاص. فى نطاق الهيكلة التّنافسيّة للمنظومة الديمقراطيّة، يختفى عمليّاً الخط الفاصل بين الرأى والشخص، لأن مستقبل الشخص السّياسى يتوقف على فوز أرائه، وإلاّ فقد مكانه السّياسى، لهذا السبب سرعان ما ينزلق الخطاب السّياسى إلى الأنانية والخشونة، فى الأثناء ينتاب العموم من القوم الشعور بالسخرية والاستياء، ويفقد المجتمع الرّوحانيّة والتحلّى بالقيم المعنويّة. ختاما فمن مضاعفات الديمقراطيّة التّنافسيّة الثمن الباهظ الذى يدفعه المجتمع من جراء التفرقة التى تتفاقم بين فئاته المختلفة التى تكون لديها حساسيات خاصّة، بدلاً من العمل على التقارب بينها، كل نظام قائم على غالب ومغلوب لا يمكن إلاّ أن يكون سبب التفرقة. وكل نظام سياسى قائم على عمليّة التّنافس بين فئات المصالح، يجعل السعى وراء المنافع الماديّة مقدّما على تنمية العلاقات الاجتماعيّة ذات المنافع المتبادلة، وإضافة إلى ذلك، فإن تكوين الأحزاب السّياسية التى تجمع كل منها اهتمامات متفرقة وفى مجالات واسعة، يؤدّى مع مرور الزمن إلى تحصن كل حزب وراء نظريته، بحيث عندما يكون هناك حزبان أساسيان مثلاً، ينقسم المجتمع إلى معسكرين: "يسار" ضدّ "يمين" و"ليبرالى" ضدّ "محافظ". لكن الحياة الاجتماعيّة لها مشاكلها الكثيرة والمعقّدة، كل مشكلة يمكن النظر إليها من عدّة رؤى، وليس من وجهتى نظر فقط. ولكى يتمكن الحزبان من إيجاد مجال للتبارى، وتُخْتَزَل المشاكل إلى صراع ثنائى بسيط وتجمّع الآراء حول المسائل المتباينة فى معسكرين كبيرين متصارعين، مع مرور الوقت أصبحت عمليّة المعسكرين هذه شىء طبيعى بالنسبة لعدد كبير من الناس، وحتّى أولئك الذين لا ينتمون بطبيعتهم إلى فكرة المعسكرات يجدون أنفسهم، بدافع من الحديث السّياسى الذكى، منجذبين إلى معسكر أو آخر، هذا الانقسام فى المجتمع يعد من المساوئ الروحيّة للديمقراطيّة. والآن وقد علمنا نقائص الديمقراطيّة، ماذا بعد؟ هل وصلت الإنسانية إلى نهاية التاريخ فى الإبداع السّياسى؟ الواقع هو أنّه قد استقر فى العالم ما يمكن أن يعرف بثقافة الديمقراطيّة التنافسيّة، هذه الثقافة كانت النتيجة الحتميّة لصراع بدأ خلال النهضة الصناعيّة عندما سعت الطبقات السياسيّة الصاعدة إلى اقتلاع السلطة من يد الطبقة الأرستقراطيّة، فالديمقراطيّة التنافسيّة ضمنت حقوق هذه الطبقات الصاعدة وفى نفس الوقت حافظت على مصالح الطبقة الثريّة والقويّة، وفتحت أمام التجار والملاّك الصّغار وآخرين إمكانيّة المشاركة فى الحكم، ووصل تفكير المفكرين والسياسيين إلى ما لدينا اليوم من ديمقراطيّة مبنيّة على ضرورة إقامة عمليّة تنافس بين المجموعات ذات المصالح الخاصّة، لأنّ الإنسان بطبيعته أنانى وتواق إلى المنافسة، وقام قادة الفكر والسّياسة بترويج هذه الثقافة بين طبقات الشعوب المتوسطة والضعيفة وجعلتها "المهيمنة" على العقول. ولكننا رأينا كيف أن الديمقراطيّة التنافسيّة قد أثبتت عدم جدارتها لعصر يزداد فيه باضطراد ترابط المصالح الوطنيّة والدّوليّة على نطاق عالمى، فى حين أنّ إصلاحها غير ممكن لأنّ عيوبها موجودة فى صلب الفكرة التى افترضتها لنفسها، فالفساد الناتج عن المال، وإقصاء الأمور إلى النظرة الواحدة، والعجز على حلّ المشاكل المستعصية، والتخطيط القصير المدى، وفقدان التعاون عبر الحدود، وفقدان اللياقة فى التعامل والخطاب، وتفاقم التفرقة فى المجتمع، وازدياد السخرية والاستياء من العمليّة السياسيّة عموماً بين أهل المجتمع، وبصورة عامة التأثير السلبى على الروح الإنسانى – تلك هى ذروة تلك المنظومة: ثمرة بذرتها المرّة. فما هو البديل؟ وإلى مقال قادم.