من طبيعة السّياسة الحزبيّة أنها تفتقر إلى التخطيط والتعهد طويل المدى على معالجة المسائل الحيوية عبر الزمان والمكان، مثل المشاكل الاجتماعيّة والبيئيّة المعقدة التى تحتاج إلى ذلك، لأن النّظم السّياسية المبنيّة على التّنافس، مقيّدة بآفاق التخطيط قصيرة المدى، فحزب الأغلبية يسعى إلى الاحتفاظ بالتفوّق، وبالتالى لابد له من الاستجابة إلى المصالح الفوريّة لناخبيه وتحقيق نتائج ملموسة فى فترة ما بين الانتخابات التى تقع فى مواعيد متقاربة نسبيّاً، ولو فرضنا أن هذا الحزب تمكّن من وضع المخططات لمشاريع بعيدة المدى، فلا يوجد أى ضمان أن الحزب الموالى سيواظب على تنفيذها، لأنّه فى حاجة إلى الابتعاد عن قرارات الحزب السابق، وعدم الاستمرار فى تنفيذ مشاريع كان مضطرا إلى الاعتراض عليها أما فى الحملات الحزبيّة أو فى أثناء وجوده فى المعارضة، تركز الحملات الانتخابيّة والأحزاب السّياسية على الإرضاء السريع لناخبيها الحاليين، يحول دون اتخاذها تعهدات تهم الأجيال القادمة، ومن أبرز الأمور التى تهم الأجيال القادمة هى استقرار البيئة، بقدر ما نُفسد البيئة اليوم بقدر ما نجعل الأجيال القادمة أكثر فقراً وعوزا. فالفقر والجريمة وانتشار المخدرات والعنف فى العائلة، كلّها مشاكل اجتماعيّة تحتاج إلى استراتيجيات بعيدة المدى، كذلك الرّقى بالتعليم وتقوية أواصر العائلة، وخلق مواطن اقتصاديّة وبعث روح الاحترام لقواعد الأدب والقيم الأخلاقيّة، كلّها وميادين أخرى، لا تأتى بنتائج إلاّ عن طريق استراتيجيات على مدى أجيال، فالتّنافس السّياسى ليس لديه "الصبر" للعمل عبر أجيال قادمة، والمسئولون فى التّنافس السّياسى لابد لهم من تحقيق فعاليّات ملموسة ورنانة فى فترات ما بين الانتخابات التى تتكرّر كل عدة سنوات فيفتحون الملاجئ والمدارس الخاصة لإيواء أطفال الشوارع والشباب المجهول الأصل المتزايد باستمرار، ثمّ ينشئون المساحات التجاريّة العملاقة لصرف انتباه المواطنين بالإغراءات الماديّة القصيرة المدى. وقياساً على هذا المنوال، فكما أنّ النظم السّياسية تتجاوب مع منتخبيها الحاليين دون اعتبار للأجيال القادمة، كذلك فهى تتجاوب مع منتخبيها الموجودين فى المنطقة الانتخابيّة دون المناطق الأخرى، هذه هى مشكلة "المكان" أو المشكلة الترابيّة، التى تبرز بصورة واضحة على مستوى السّياسة الوطنيّة فى غياب منظومة تنفيذيّة تعترف بالبعد العالمى بأننا نعيش على كوكب واحد تحت بيئة واحدة. هذا الوضع يؤثر سلبا على الوضع الاجتماعى والبيئة، فمشاكل البيئة اليوم تتعدّى الأمم، والتداعيات الناتجة عن طبقة الأوزون، وارتفاع حرارة الأرض، والأمطار الحمضيّة، وتلوث المياه، وتلاشى الأنواع – كلها ومشاكل أخرى، تحتاج إلى مستويات من التعاون والتنسيق على نطاق عالمى لم يعرف من قبل، لذا فإن نظريات السّيادة الوطنيّة المبنيّة على السّياسات التّنافسيّة القائمة حاليّاً تجعل من المحال معالجة هذه المشاكل البيئيّة، فمثلاً قد توجد مشاكل للبيئة فى منطقة حدوديّة لبلدين متجاورين، السّياسيون يضحون بالتعاون اللاّزم بين البلدين لمواجهة هذه المشاكل البيئيّة فى سعيهم الحثيث وراء الاهتمامات الوطنيّة نظراً لارتباطهم بإرضاء مواطنيهم الناخبين، ينتج عن ذلك أن تتنافس الدّول فيما بينها للاستحواذ على رأسمال سياسى قريب الأمد يكون على حساب رأسمال أيكولوجى بعيد الأمد. تبرز المسألة الترابيّة أيضاً فى المشاكل الاجتماعيّة، لأنّ تحديات الفقر، والجريمة، وانتشار المخدّرات، واستغلال النساء والأطفال، والمتاجرة بالعباد، والإرهاب، والصراعات العرقيّة، والهجرة الغير قانونيّة وانسياب الّلاجئين – كلّ هذه الآفات لا تحترم الحدود الوطنيّة مثلها مثل المشاكل الإيكولوجية، التى لا تحترم هى الأخرى الحدود الوطنيّة، لا يمكن للحكومات الوطنيّة مواجهة هذه المشاكل وحلّها بمفردها، فى حين أن التّنافس السّياسى داخل الدّول يحول دون قيام التعاون المثمر فيما بينها. السّياسيون المتنافسون يستجيبون لمصالح الناخبين الموجودين فى حدود المناطق الانتخابيّة ولا يهتمون بالذين لا ينتخبون الموجودين فى مناطق خارج الدوائر الانتخابيّة، هذا الوضع يشجع السّياسيين المتنافسين فى البلاد الغنيّة على نقل مظاهر تلك التحديات إلى البلدان الفقيرة، يتفاقم حال مظاهر التحديات هذه فى البلدان الفقيرة مع مرور الوقت حتى تصل إلى مرحلة تهديد البلدان الغنيّة التى صدرتها السياسة التّنافسية لا تهتم بالتخطيط للبعيد، ولكن ما تهتم به هو الحصول على انتصارات انتخابيّة على المدى القريب، هكذا نجد أن مشكلة المكان جزء لا يتجزأ من مشكلة الزّمان فى الديمقراطيات التّنافسيّة.