حتى لا نكون سبباً فى ولادة فرعون جديد يحكم مصر، وبصرف النظر عن اسم الرئيس الذى سيختاره الشعب، يجب أن نؤمن ونقتنع أن هذا الرئيس هو بشر يأكل الطعام ويتزوج النساء وينام الليل ويمشى فى الأسواق، وبالتبعية فإن المؤتمرات الجماهيرية التى يحضرها كل المرشحين المحتملين للرئاسة هذه الأيام، يجب أن تخلو من آفة التصفيق والهتافات للرئيس المنتظر كل 5 دقائق، فنحن بهذه العادة نضر بالرئيس القادم وندفع به إلى مرحلة تضخم الذات إلى حد الورم ونزج به إلى إرهاصات الفرعنة، علينا أن نتخلى عن هذه العادة السيئة من سلوكياتنا، وأن نتوقف عن الهتافات الحماسية، لأنها توقظ الكبرياء الذى ربما يكون نائما فى النفوس، وتدفع النفس البشرية أيا كان معدنها إلى غياهب الوهم أو التوهم بحب الجماهير، فالتصفيق والتطبيل والتهليل والتكبير والزغاريد على طريقة الحزب الوطنى "المنحل" مصطلحات يجب أن تنتهى من قاموسنا السياسى فى مصر، والرئيس الذى نصفق له ليس أسطورة أو يأتى بالخوارق أو يصنع المعجزات، وليس ساحراً يأتى بما لا يستطيع البشر أن يأتوا به، هو فى النهاية شخص جئنا به إلى الحكم لينفذ سياسات وضعناها وليكون خادما للشعب لا متعاليا عليه. والطريق إلى فرعنة وتأليه رئيس مصر القادم، وأى رئيس بعده، مفروش بالتصفيق.. وبوابة صناعة الديكتاتور وغرس الفساد تمر عبر التهليل والتطبيل لكل ما يقوله فى خطاباته وجلساته ومؤتمراته، فهذه الآفة فى سلوكنا السياسى هى التى تشعر الحاكم أنه فى السماء وأن شعبه فى الأرض. وتذكر كتب التاريخ أن نيرون طاغية روما أسس مدرسة خاصة لتعليم أصول التصفيق، وأنه كان يأمر ما يقرب من 5 آلاف فارس وجندى من أفراد الجيش بحضور الحفلات الموسيقية التى كان يغنى فيها، وهو يعزف على القيثارة ليصفقوا له بعد أن ينتهى من الغناء والعزف. وحتى لا نصنع ديكتاتوراً جديداً، على وزير التعليم ألا يقوم بتجريف الفصول الدراسية من أطفالها الأبرياء ويدفع بهم لكى يصطفوا فى الشوارع ويلوحوا بأعلام تم شراؤها من ميزانية الوزارة وأموال الشعب لزوم النفاق للسيد الرئيس والتأكيد لسيادته أن أطفال مصر يحبونه إلى حد الجنون. مطلوب من وزيرالأوقاف، أيا كان اسمه، ألا يعطى تعليمات لخطباء الجمعة بالدعاء للسيد الرئيس، باعتباره من "أولى الأمر منكم"، لأن سيادته ليس نبياً أرسل من السماء وليس معصوماً أو منزهاً عن الخطأ. حتى لا نصنع ديكتاتوراً جديداً مطلوب من رؤساء تحرير الصحف التى كانت تسمى "حكومية" أن تفتح نوافذ الحرية إلى حد انتقاد سياسات الرئيس، وكشف أى فساد يحيط به أو بأسرته، طالما أن هذا النقد وكشف الفساد يستهدف المصلحة العامة ولا يتضمن تشهيرا أو تجريحا لأحد، عليهم أن يقلعوا عن أسوأ ما كان فى الإعلام الحكومى، وهو وضع صورة وأخبار الرئيس فى الصفحات الأولى بداع وبدون، عليهم ألا يحتفوا بعيد ميلاده، باعتباره عيد ميلاد مصر، وألا يخرج علينا أحدهم بمقال بكتب فيه أن مصر ولدت يوم ولد الرئيس، عليهم أن يكتسبوا ثقافة النقد البناء الغنى عن الهوى والمصالح لا ثقافة النفاق المجانى والمدفوع التى كانت سائدة من قبل. مطلوب من رؤساء القنوات الفضائية المملوكة للدولة القضاء على مصطلحات الرياء والنفاق والنفخة الكاذبة التى يرددها المذيعون خلال تعليقهم على جولات الرئيس من نوعية "هاهو الأب والقائد والمعلم قد وصل إلى قاعة المجلس، وهاهم جنوده البواسل وقد وقفوا واصطفوا لتحيته". علينا كمواطنين الإقلاع عن العبارات الشائعة التى نرددها على الفضائيات من نوعية "نشكر السيد الرئيس ونشكر السيد الوزير ونشكر السيدة المذيعة ونشكر البرنامج". وحتى لا يأتى ديكتاتور جديد مطلوب من أعضاء المجالس النيابية والمحليات والنقابات والأحزاب الوليدة التى تتشكل ألا يصفقوا للرئيس قبل وأثناء دخوله للقاعة وصعوده للمنصة وإلقاء خطبته وبعد خروجه. مطلوب أيضا من رئيس مصر القادم ألا يصنع لنفسه بطانة سوء أو حاشية شيطانية تزيف له الحقائق وتغيبه عن الواقع وتقيم أسورا حديدية تعزله عن الشعب الذى اختاره، عليه أن يتحرر من قيود السلطة والمنصب وينزل إلى الناس فى الشارع يسمعهم ويحاورهم، عليه ألا يسمح لوزير الداخلية أو لقائد الحرس الجمهورى أن يخصص له كتيبة حراسة قوامها مئات الأفراد المسلحين تحيط به أينما ذهب وتطلق الرصاص على كل من يحاول الاقتراب منه بالشكوى أو السلام، مطلوب منه أيضا ألا يهاب الموت، فالرئيس الذى يزيل الحواجز بينه وبين الناس سينال حبهم وسيشكلون دروعا بشرية للدفاع عنه وحمايته من أى خطر. مطلوب من الرئيس القادم ألا يسمح لموكبه أن يشل حركة المرور ويعطل مصالح الملايين فى أى مكان يذهب إليه، بل عليه أن يقود سيارته بنفسه، وأن يقف فى إشارة المرور شأنه شأن أى مواطن عادى، فهيبة الرئيس وسلطته تتحقق بأن يكون واحدا من الناس. مطلوب من رئيس مصر القادم أن يأمر بعدم تعليق صوره فى الدواوين والمصالح الحكومية، لأن زمن الأصنام والآلهة قد مضى. مطلوب من الرئيس القادم لمصر أيضا ألا يسمح للأجهزة المحلية بخداعه، عندما يتم دهان الأرصفة ورصف الشوارع ولصق الأشجار والزهور فى الأحياء التى يزورها، ثم يعود كل شىء إلى ما كان عليه قبل الزيارة، بل عليه أن يعاقب كل من تسول له نفسه أن يقوم بهذا السلوك الفاضح المخادع. أقول ذلك بعد أن استوقفتنى ثلاثة مشاهد من وحى ثورة 25 يناير الطاهرة، أولها مشهد الرئيس المخلوع وهو يلوح بيده لتحية المصفقين والمطبلين له نفاقا ورياء من أعضاء الحزب الوطنى المنحل قبل فترة ليست بعيدة من الثورة، كان كمن تورمت ذاته حتى اعتقد أنه إله، وكان من المنطقى، وهو فى هذه الغيبوبة، ألا يستوعب ثورة الشعب ولا يعترف بها، وكان ذلك من فضل الله على الشعب المصرى الذى منح ثورته العظيمة أكسير الحياة. المشهد الثانى هو تلك اللحظة التى حمل فيها ثوار 25 يناير د. عصام شرف على أعناقهم، ومع إدراكى أن الرجل يستحق أن يكون قديساً لا رئيساً للوزراء، إلا أن المشهد له دلالاته وهو أننا قررنا منذ اللحظة الأولى للثورة، وبكامل إرادتنا، أن نرفع الرجل "الرئيس" من مستوى الأرض، ليكون فوق رؤوسنا. المشهد الثالث هو حجم التصفيق الذى ناله المشير طنطاوى خلال خطابه بحفل تخريج دفعة من أكاديمية الشرطة مؤخرا، لقد كنت أتأمل المشهد وشعرت بالإحباط لأن سلوكنا يسير على نفس المنهج القديم، فنحن نتطوع بالتصفيق للحاكم دون أن يطلب منا، ونمنحه الفرصة لأن تسول له نفسه الاعتقاد بأن ما يقوله منزه عن التأويل أو الخطأ أو الاعتراض ويتحول من مستمع ومتحاور إلى ملقن وآمر وناه. وعلى طريقة المواطن التونسى الذى خرج للشارع فى حالة هيستيرية بعد هروب بن على ليقول، "لقد هرمنا"، أقول أيضا، "لقد سئمنا.. سئمنا النفاق والكذب وتزييف الحقائق، لقد التهبت أكف المصريين بالتصفيق منذ قرون طويلة، صفقنا للوحدة والقومية العربية فى الخمسينيات والستينيات ولنصر أكتوبر فى السبعينيات، وصفق المنافقون للرئيس المخلوع طوال 30 عاماً، الآن لنكف عن التصفيق والنفاق ولنبدأ الحوار والبناء".