أنت الجالس على كرسيك تقرأ والكلمات تتسلل إلى عينيك، فعقلك، ثم (ربما) تصل إلى قلبك.. تتلقى الكلمة وتعيش معها، لكن الجالس بجوارك قد يتلقاها بطريقة مختلفة عنك، ويرى فيها ما لم تره أنت. ربما لن تصل إلى حدود قلبه، فيحللها بعقله وفق ما يناسب تفكيره ومعتقداته، أو كما تملى عليه ثقافته التى تفتح أمامه الآفاق واسعة إن كان شديد الاطلاع والمعرفة، أو تغلق الأبواب إن كان محدود الثقافة. أما إن كان متطرفا وعنصريا فالمقص يرافق نظراته ليقتطع من الكلمات كل ما لا يتطابق مع مواصفات عنصريته، وفى النهاية قد يلصق مكانها المعانى التى تؤجج ناره وتزيد من استفزازه فيعلن الحرب بلا أى راية للسلام. هناك أيضاً من يترك عناء القراءة للعينين فقط، بينما يستريح العقل من كل وظائفه، تماماً كمجرى تمر من خلال المياه لتكمل طريقها دون أن تترك أى أثر فيه أو تحفر ولو حفرة بسيطة تغيّر من تشكيله الجامد المتحجر، بينما المياه تكمل طريقها لتروى الآخرين. المتطرف، الوسطى، المتعلم والأمّى.. كل هذا التناقض من حولك، أنت جزء من تشكيله. هذه الآراء المتنوعة، المتلاقية والمتنافرة هى المجتمع بكل فئاته ومستوياته، أو بالأحرى هى "الشارع". لذا تستغرب أحياناً من يتحدث عن "الشارع" وكأنه يسكن فى كوكب أو يرسل إليك إشارات من مكوك فى الفضاء، ليخبرك عما يدور فى "الشارع" حيث يتجمع كل ساكنى الأرض. أياً تكن، أنت جزء من الشارع الذى تعيش وسطه وتحتك بناسه وتمشى فوق أرصفته. أنت معنى بكل ما يدور فيه شئت أم أبيت. تشعر بفخر إن كان نظيفاً هادئاً راقياً، تشم فيه رائحة الأرستقراطية، فتتباهى لإحساسك بأن لك فضل فى الإعلاء من شأن شارعك، وبأنه مرآة عنك وعن بيتك، ومدعاة للتباهى أمام معارفك. أما إن كان يعبق بكل الروائح الكريهة، فإما أن تجلس فى بيتك نافضاً عن كاهلك كل مسؤولية، متعالياً على الشارع ومن فيه وكلما خرجت من دارك شتمت ولعنت ألف مرة وجودك وسطهم، وإما أن تهرب إلى مكان آخر ولن تنسى أن تشتم الشارع الذى تركته خلف ظهرك، وكلما سنحت لك الفرصة تتحدث عنه بصفة الغائب، وتسرد لائحة من المواعظ والتوجيهات التى "يجب" أن يعمل بها سكان "الشارع" كى يرتقوا أو كى يخرجوا من محنهم. عن أى شارع تتحدث؟ كلمة "الشارع" التى يلوكها الجميع على ألسنتهم، من يكون؟ وحين يقولون لك "الشارع العربى"، من يقصدون؟ فالشارع المصرى مثلاً يختلف عن اللبنانى وعن المغربى والسورى.. ثم إذا كان داخل الشارع الواحد شوارع، والشوارع تتفرع عنها أزقة ودروب.. أطياف من البشر يسكنون فى مكان واحد ويختلفون فى قراءتهم للكلمة الواحدة، للمشهد ولأحوال البلد، ويختلفون على أتفه الأسباب وينسون أهمها، فمن تقصد ب"الشارع"؟ ولماذا كل من يتحدث عنه يحكى وكأنه ليس جزءاً منه أو يملى عليه أوامره ليسوقه وفق إرادته؟ اعترف بالشارع كما هو بدل أن تتحدث عنه من عليائك وتملى عليه أوامرك وأنت أبعد من أن تعرف حقيقته.