وحياة والدك تحدث معى كمشجع بسيط، حرق علم وطنه أمام عينيه فى السودان، وشيع فى جنازة فى بلد المليون شهيد، وطنه الذى لم يسئ إلى أحد، وكان وسيظل عنوانا للخضرة والتسامح والفن والرقة والموسيقى والغضب أيضاً، لا تحدثنى فى السياسة ولا القومية العربية ولا «البدنجان» وأجب عن السؤال الطويل التالى: هل انتصر الجزائريون علينا فعلاً، وما هو إحساسهم وهم يطاردون المشجعين المصريين العزل فى شوارع الخرطوم بالمطاوى والسكاكين، هل يوجد فى تاريخنا معهم ما يبرر تجييش المشجعين من المجرمين ورجال الأمن، لتحويل مباراة مع مصر الكبيرة إلى معركة يشعر الجزائرى بعدها أنه انتصر، وعلى من؟، من أين جاءت هذه الكراهية، ولماذا تحولنا إلى صهاينة وخونة ونستحق القتل فى الشوارع؟ هزيمتنا فى مباراة ليست هى المحزنة، لأننا أسياد اللعبة فى القارة، ذهبنا نشجع فريقا عظيما ومعنا أعلامنا، ذهبنا إلى مباراة كرة قدم، لم نكن نتصور أن الجزائر الرسمية قد قررت زرع الذئاب فى الشوارع، ولم نتخيل أن شعبا مأزوما، يبحث عن هويته وصلت كراهيته لنا إلى هذا الحد، هل نستحق ما حدث؟ وهل أصبحنا ملطشة لكل من هب ودب؟. سأفترض معك أنه يوجد جزائريون يحبون مصر، قل لى من هم؟ وهل دافعوا عن المصريين وممتلكاتهم فى بلادهم، النخبة الثقافية الجزائرية تمثلها أحلام مستغانمى التى تكره مصر لأنها بلد الرواية، والسينمائيون يكرهوننا لأننا بلد السينما، هل تكف مصر عن الإبداع لكى يشعر الأخوة الجزائريون أنهم كبار، هل تتخلى عن تاريخها الطويل والعريق لكى يصنع الصغار تاريخهم، نجىء بمن أفضل من أم كلثوم وعبدالوهاب ومحمد فوزى والقصبجى وعبدالمطلب ويوسف شاهين وصلاح أبوسيف ومحمد رفعت ومصطفى إسماعيل وعبدالحليم حافظ وطه حسين ونجيب محفوظ ويوسف أدريس وأحمد شوقى والشيخ الغزالى وسعاد حسنى وليلى مراد وشادية لترقيق قلوبهم وإخراجهم من أزمنة البداوة التى بداخلهم، ولكى يذهبوا إلى مباراة بدون سكاكين؟ نجىء بمن أفضل من جمال عبدالناصر ليشد على أياديهم لكى يصير لهم تاريخ ونشيد وطنى. نحن هنا لا نتحدث عن كرة القدم، خالد منتصر جاء بمقتطفات من كلام نخبتهم المتطرفة الكارهة (فى المصرى اليوم)، مثلا يحيى أبوزكريا مفكر (لا تعرف أين؟) يقول «لا يمكن بأ ى حال من الأحوال أن نقارن بين دولة المليون شهيد ودولة المليون راقصة، أما المخرج أحمد الراشدى (بتاع لا) والذى كرمه مهرجان القاهرة السينمائى مؤخراً فقال: «إن سبب غضب مصر لا يعود إلى خسارة مباراة، ولكنها ثورة غل دفين يختزنونه لنا ولإنتاجنا الوطنى الذى لطالما أعابوا عليه وانتقصوا من قيمته بسبب - ما اعتبروه عائق فهم اللهجة الجزائرية». المصريون فى هذه اللحظة السريالية مطالبون بتجاوز صغائر الصغار، والاعتزاز بما قدموه، لأنهم أكبر من الذين يظنون أن النفط ممزوجاً بالأمراض القديمة، سيمنحهم درجة التحقق، نحن متحضرون بالفطرة، ولسنا مستعدين لمصافحة الكارهين لنا، أما موضوع العرب والعروبة فعلينا أن نتركه لحماة اللغة العربية فى الجزائر، ولمستودع أنابيب الفتن فى قطر، وأتمنى أن تنتقل جامعة الدول العربية إلى إحدى البلدتين العريقتين لكى تتحرر القدس بالمطاوى وقناة الجزيرة، ولكى نتخفف من عبء إحساسنا بالمسئولية، ونتفرغ لحياتنا كعشاق للحياة والناس والإبداع وكزراع للأمل والطيبة، ونتوجه لحسن شحاتة ورجاله بالشكر الجزيل على ما قدموه لنا، لأنهم كانوا وسيظلون عنوانا لفروسية المصريين فى المستطيل الأخضر، ولأنهم أسعدونا كثيراً، وواصلوا التقدم رغم تآمر الفيفا وشيخ المنصر بلاتر، لم تكن مباراة فى كرة القدم، والأيام بيننا.