تعرف على برنامج احتفالية عيد العمال بحضور السيسي    «بحر البقر».. أكبر محطة بالعالم لمعالجة الصرف الزراعى بسيناء    رئيس الوزراء يُهنئ البابا تواضروس الثاني بعيد القيامة المجيد    شعبة الفاكهة: ارتفاع سعر العنب المطروح بالأسواق لاستيراده بالعملة الأجنبية    السكة الحديد تعلن تأخيرات القطارات المتوقعة اليوم الخميس    «الإسكان»: بدأنا تنفيذ 64 برجا سكنيا و310 فيلات في «صواري» الإسكندرية    مدبولي: الحكومة مهتمة بتوسيع نطاق الاستثمارات الكورية في محتلف المجالات    تراجع معدل التضخم في كوريا الجنوبية لأقل من 3% لأول مرة منذ 3 أشهر خلال أبريل الماضي    57 نائبا ديمقراطيا ينتفضون ضد بايدن لمنع الهجوم على رفح الفلسطينية    جيش الاحتلال يقصف مسجد القسام في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة    سفير روسي: اتهامات أمريكا لنا باستخدام أسلحة كيميائية «بغيضة»    غضب الله.. البحر الميت يبتلع عشرات المستوطنين أثناء احتفالهم على الشاطئ (فيديو)    الدفاع الروسية تعلن إحباط هجوم جوي أوكراني وتدمير 12 طائرة مسيرة كانت تستهدف مناطق في العمق الروسي    مودرن فيوتشر في اختبار صعب أمام طلائع الجيش بالدوري    ميدو يصدم قائد الأهلي ويطالب بتسويقه    حالة الطقس اليوم الخميس.. أجواء معتدلة على أغلب الأنحاء    فلاي دبي تعلن تأخير بعض رحلاتها بسبب الحالة الجوية اليوم الخميس    مصرع طالب صدمته سيارة مسرعه أثناء عودته من الامتحان ببورسعيد    تحرير 11 محضرًا تموينيًا لأصحاب المحال التجارية والمخابز المخالفة ببلطيم    أصعب مشهد أثناء تصوير فيلم السرب.. أحمد السقا يروي التفاصيل    تامر حسني يدعم بسمة بوسيل قبل طرح أغنيتها الأولى: كل النجاح ليكِ يا رب    رئيس الوزراء يُتابع جهود اللجنة الطبية العليا والاستغاثات خلال أبريل 2024    حملة علاج الادمان: 20 الف تقدموا للعلاج بعد الاعلان    ماذا يستفيد جيبك ومستوى معيشتك من مبادرة «ابدأ»؟ توطين الصناعات وتخفيض فاتورة الاستيراد بالعملة الصعبة 50% وفرص عمل لملايين    بحضور السيسي، تعرف على مكان احتفالية عيد العمال اليوم    نسخة واقعية من منزل فيلم الأنيميشن UP متاحًا للإيجار (صور)    «أرواح في المدينة» تعيد اكتشاف قاهرة نجيب محفوظ في مركز الإبداع ب«الأوبرا»    هل يستجيب الله دعاء العاصي؟ أمين الإفتاء يجيب    ملخص عمليات حزب الله ضد الجيش الإسرائيلي يوم الأربعاء    مشروع انتاج خبز أبيض صحي بتمويل حكومي بريطاني    تعرف على أحداث الحلقتين الرابعة والخامسة من «البيت بيتي 2»    أوستن وجالانت يناقشان صفقة تبادل الأسرى والرهائن وجهود المساعدات الإنسانية ورفح    الصحة: لم نرصد أي إصابة بجلطات من 14 مليون جرعة للقاح أسترازينيكا في مصر    خبير تحكيمي يكشف مدى صحة ركلة جزاء الإسماعيلي أمام الأهلي    الثاني خلال ساعات، زلزال جديد يضرب سعر الذهب بعد تثبيت المركزي الأمريكي للفائدة    بتهمة التحريض على الفسق والفجور.. القبض على الإعلامية "حليمة بولند" في الكويت    متى تصبح العمليات العسكرية جرائم حرب؟.. خبير قانوني يجيب    لاعب الزمالك السابق: إمام عاشور يشبه حازم إمام ويستطيع أن يصبح الأفضل في إفريقيا    هاجر الشرنوبي تُحيي ذكرى ميلاد والدها وتوجه له رسالة مؤثرة.. ماذا قالت؟    عميد أصول الدين: المؤمن لا يكون عاطلا عن العمل    وليد صلاح الدين يرشح لاعبًا مفاجأة ل الأهلي    عاطل ينهي حياته شنقًا لمروره بأزمة نفسية في المنيرة الغربية    كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي في الموارد البشرية؟    هذه وصفات طريقة عمل كيكة البراوني    أهمية ممارسة الرياضة في فصل الصيف وخلال الأجواء الحارة    حكم دفع الزكاة لشراء أدوية للمرضى الفقراء    مظهر شاهين: تقبيل حسام موافي يد "أبوالعنين" لا يتعارض مع الشرع    بسام الشماع: لا توجد لعنة للفراعنة ولا قوى خارقة تحمي المقابر الفرعونية    يوسف الحسيني : الرئيس السيسي وضع سيناء على خريطة التنمية    برج الميزان .. حظك اليوم الخميس 2 مايو 2024 : تجاهل السلبيات    النصر يطيح بالخليج من نصف نهائي كأس الملك بالسعودية    الخطيب يطالب خالد بيبو بتغليظ عقوبة افشة .. فماذا حدث ؟    بعد أيام قليلة.. موعد إجازة شم النسيم لعام 2024 وأصل الاحتفال به    مفاجأة للموظفين.. عدد أيام إجازة شم النسيم في مصر بعد قرار ترحيل موعد عيد العمال    بقرار جمهوري.. تعيين الدكتورة نجلاء الأشرف عميدا لكلية التربية النوعية    النيابة تستعجل تحريات واقعة إشعال شخص النيران بنفسه بسبب الميراث في الإسكندرية    أكاديمية الأزهر وكلية الدعوة بالقاهرة تخرجان دفعة جديدة من دورة "إعداد الداعية المعاصر"    بروسيا دورتموند يقتنص فوزا صعبا أمام باريس سان جيرمان في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«زمكان» الحلقة الأولى

تركت نفسي أسبح دون أن أتحسس موضع قدمي فإذا بالماء يحملني ويدغدغ مشاعري، مكثت في البحر لا أرغب في مغادرته، وكيف لي أن أترك البحر وأنا في عين النعيم!! ولكن الماء حملني للشاطئ وأنا أقاومه، وحين وجدتني أقف على الرمال سعيت سعيا للناس وصحت فيهم: إنكم لا تعرفون مدى حلاوة الماء الذي في وسط البحر، ادخلوا لتعرفوا، انظروا لتروا، تذوقوا لتتبينوا، وحين استيقظت كانت حلاوة الماء لا تزال على لساني». وإذ قصصت رؤياي على جدي قال: ستعرف تأويله بعد حين.
الحلم
«عندي دهشة، لا زالت الحياة تمنحني الدهشة».. أم العارفين بالله سيدة الحكمة «ميمنة النورانية» رضي الله عنها.
«رأيت فيما يرى النائم أنني أعيش وكل من أعرف على شاطئ بحر ، دخلت إلى البحر لأسبح وأنا لا أعرف السباحة فوجدت ماء البحر قرمزيا فاندهشت، أخذت أتحسس موضع قدمي وأستند إلى سور كبير مشيد وسط البحر، وعندما توغلت قليلا وجدت الماء قد أصبح رائقا صافيا في لون زرقة السماء ففرحت به أيما فرحة، نظرت إلى الجانب الأيسر للبحر فوجدت بيوتا من فضة ذات قباب خضراء مقامة على الماء والماء يغمر أبوابها، أخذتني الدهشة فأخذت أعمل الفكر، كيف يعيش أصحاب هذه البيوت وكيف يقضون شئونهم!
وبينما أنا كذلك؛ وجدتني قد توغلت كثيرا في لُجَّة البحر فنظرت إلى الماء فوجدته في لون الحليب، بياضه غريب يبهج القلوب والأبصار، اندفعت موجة طيبة إلى وجهي تداعبه وكأنها ترغب في احتضانه فتذوق لساني ماءها فإذا به أحلى من العسل المصفى!!
ابتهج خاطري وكاد قلبي يقفز من سعادة مندهشة خالطت عروقه، وإذ نظرت إلى الجانب الأيمن للبحر وجدت بيوتا شاهقة كالسفن يحملها الماء الأبيض العذب، كانت هذه البيوت شفافة رأيت من خلالها ما خلفها ولكنني لم أر ما فيها!
تركت نفسي أسبح دون أن أتحسس موضع قدمي فإذا بالماء يحملني ويدغدغ مشاعري، مكثت في البحر لا أرغب في مغادرته، وكيف لي أن أترك البحر وأنا في عين النعيم!! ولكن الماء حملني للشاطئ وأنا أقاومه، وحين وجدتني أقف على الرمال سعيت سعيا للناس وصحت فيهم: إنكم لا تعرفون مدى حلاوة الماء الذي في وسط البحر، ادخلوا لتعرفوا، انظروا لتروا، تذوقوا لتتبينوا، وحين استيقظت كانت حلاوة الماء لا تزال على لساني».
وإذ قصصت رؤياي على جدي قال: ستعرف تأويله بعد حين.
الزمن والمكان
مع الزمن ينتقل المرء من الشباب إلى الكهولة ثم إلى الشيخوخة، والشيخوخة «عُمْر الحكمة»، ومع شيخوختي بدأت الأمراض تغزو جسدي وتزلزل شراييني، هي الأمراض التي تعطيك عبق الحياة الحقيقي وحكمتها، هي التي تجعلك ترى الحقيقة على حقيقتها، تظل تكدح في الحياة وأنت تنظر إليها فتراها أحيانا صغيرة وأحيانا كبيرة، تظنها حينا محدبة وحينا آخر مقعرة، وكأنك تجلس عند طبيب العيون تخضع لتجارب العدسات الصالحة لك، فإذا تهادت الأمراض إلى جسدك، انطبقت عدستها مع حياتك، وقتئذ سترى الدنيا بحجمها الحقيقي وتفصيلاتها الدقيقة، الأمراض تمنح بعضنا الحكمة، فنعرف أعمارنا الحقيقية، بالزمن الذي مر علينا، والزمن يمر على أجسادنا ولكنه لا يمر على أرواحنا أبدا.
نظل عمرنا كله نشعر أننا ما زلنا في ميعة الصبا، نقاوم مروره على أجسادنا مقاومة فارغة هشة وهمية، كأن يصبغ البعض شعره ليقضي على اللون الأبيض، أو يلجأ البعض لأطباء التجميل، ولكن مهما حاولنا فإن الزمن يمر وسيمر وسينظر إلينا شذرا وهو يقول: حتما سأضع بصمتي على أجسادكم، الجسد يفنى وتبقى الروح، ولأنها تبقى فإنها لا تخضع لقانون الزمن، في أحلامنا تهيم أرواحنا عبر الزمن فتعود بنا لطفولتنا، فنتقابل مع رفقاء لنا فإذا بنا نراهم بهيئتهم التي كانوا عليها وهم في عمر الطفولة، نرى ذلك لأن الروح هي التي تسيح في الكون وليس الجسد، النوم نوع من أنواع الموت، روح النائم تفارق جسده إلا أنها تظل موصولة به، وهي في حركتها تنطلق في أزمنة مختلفة لأنها غير خاضعة لزمان ولا لمكان.
تفاقم عليَّ المرض وعرفت أن الطبيب قال لأهلي إن أيامي في العمر معدودة، وإنه لا أمل لي في الشفاء، الآن يجب أن تتغير حياتي جملة، في هذه اللحظات لا ينبغي أبدا أن أخضع أو أضعف أو أركن للألم، يجب أن أمسك القلم وأكتب ذلك السر الذي عاش في وجداني دهرا.
أخشى أن يداهمني الموت فيموت سري معي، أنا لا أخشى من الموت أبدا، فقد عرفته وشاهدته، ثم أنني أنتظره منذ زمن بعيد، توارى الألم واختبأ خلف رغبتي المحمومة في تبليغ الأمانة، إذ انقدحت عزيمتي، وانتويت على ما ليس منه بد، فكان أن أمسكت بالقلم، فأخذ يجري بين السطور، يسابق الزمن ليحكي حكاية الزمن، حكاية جدي العمدة الحاج غريب يوسف، هذا هو سره، هذه هي حياته، سأرويها لكم ممتزجة بحياتي، فقد تعانقت الحكايتان، والتقيتا، وهاآنذا أكتب نصوصهما التي اختزنها قلبي وعاشها عمري ، لكم ألا تصدقوها، ولكنها رغم أن أي عقل لا يفهم إلا من خلال ما تستشعره حواسه حدثت، رواية جدي لن يفهمها ويصدقها من سيقرأها بعقله المجرد المتردد، ولكن سيفهمها ويعرفها من سيقرأها بروحه، فاقرأها بروحك وإلا فدعها ولا تقربها.
حيوات
الحياة الأولى
فتحتُ عينيَّ على الحياة فوجدت كل شيء أخضر، إلا السماء فقد كانت زرقاء صافية تغزوها في أيام الشتاء سحب بيضاء، ثم سرعان ما تتراكم فتصبح ركاما رماديا يثير في النفس شعورا غامضا يقع بين الاكتئاب والانقباض والترقب والحذر والخوف، وحين ينقشع السحاب تعود للسماء زرقتها المحببة ويعود للنفس اطمئنانها، وعلى امتداد البصر عندما تلتقي الخضرة بالزرقة يتلون الكون أمام نظري فيصبح طيفا على درجات «السيان» cyan تركوازيا في أول النهار، مائلا للزرقة الصريحة في وسط النهار، تناوشه الأشعة الحمراء قبل الغروب، كل ذلك كان في «أنشاص الخاصة» التي بها ولدت، وفيها رأيت طفولتي، كانوا يطلقون عليها أيضا «أنشاص التفتيش» أو البساتين حيث كان بها مقر التفتيش الملكي بالشرقية، إذ كانت ذات يوم مقرا ملكيا، ينتجع فيها الملك فاروق، بها قصره الذي أقامه عام 1946 على ترعة الإسماعيلية، وحفه من كل جانب بالحدائق الغنَّاء الممتدة، وخلف القصر أقيمت أنشاص الخاصة على نمط «الكمبوندات» الحديثة وكأنها مستعمرة سكنية متميزة وسط الكتلة الخضراء الممتدة.
أول شيء يقابلك خلف سور القصر هو «سرايا» كبيرة مكونة من ثلاثة أدوار يحيط بها سور مرتفع خلفه صف من الأشجار السامقة تحجب الرؤية، وفي الناحية الثانية المواجهة لسور السرايا حديقة من أبدع حدائق العالم اسمها «حديقة الصّبار» فيها كل أنواع وأشكال نبات الصبار، بعدهما يوجد المسجد الملكي وهو مسجد كبير له حديقة كبيرة، ثم عدد من الفيلات مشيدة على النمط الإنجليزي، ولكل فيلا حديقة تحتوي على مجموعة من الأشجار والنباتات، وكانت الشجرة المميزة في كل فيلا هي شجرة المانجو التي كانت تثمر مع بداية الصيف وتظل تنتج ثمارها إلى ما بعد الخريف.
وبجوار هذه الفيلات توجد مجموعة من البيوت الصغيرة مشيدة على نظام واحد، وكأنها صف من العساكر المنضبطين، يقفون في مواجهة قليل من الضباط من أصحاب الرتب العالية.
أنشاص التفتيش أو الخاصة تقع على الناحية الأخرى لترعة الإسماعيلية، وهي تابعة لمركز بلبيس محافظة الشرقية، وفيما بعد أصبحت تابعة لمركز مشتول السوق، يصلها بالعالم الخارجي كوبري يعبر الترعة أقيم على نمط كوبري أبو العلا، ولكنه صغير الحجم والطول، وفور أن تدلف من الكوبري ستجد سور القصر على يسارك، وفي مواجهته حديقة النباتات التي كانت من أعجب وأندر الحدائق في العالم، كانت هذه الحديقة تحتوي على أشجار مصطفة وكأنها غابة مهذبة، وفيها فواكه نادرة الوجود في مصر مثل الفرامبواز، والباباظ، والباشن فروت، وأنواع من التوت له ألوان غريبة مثل الأبيض والأحمر، بالإضافة إلى بستان به أنواع مدهشة من الزهور قد لا ترى مثيلا لجمالها في حياتك.
كان أبي «عبد الحق الجوسقي» مهندسا بالإصلاح الزراعي بتفتيش أنشاص، إذ بعد ثورة 1952 أصبح القصر الملكي تابعا للقوات الجوية وكان يُستخدم كاستراحة لقائد القوات، أما باقي أنشاص بحدائقها وأراضيها، وورشها، وإصطبل خيولها، وتفتيشها كله، فقد أصبحت تابعة للهيئة العامة للإصلاح الزراعي، فكانت السرايا سكنا لمدير «التفتيش» وكانت الفيلات سكنا للمهندسين ولطبيب المنطقة، وكانت البيوت المتراصة سكنا لباقي الموظفين، وأقام تفتيش الإصلاح الزراعي مساكن ريفية صغيرة للعمال والفلاحين الذين يعملون في الحدائق والورش وماكينة الكهرباء، وكان الطريق العام يفصل بين هذه المساكن وفيلات المهندسين وكأنه الحجاب الحاجز بين طبقتين من بني البشر.
وفي أنشاص الرائعة نشأت وتنسمتُ حدائقها واستغرقتني طبيعتها، حيث الخمائل والحدائق وعطر الربيع وسحر المكان وروعة الزمان ، كانت الفيلا التي نسكن فيها مميزة على كل الوجوه، ورغم أنها مطابقة لباقي الفيلات إلا أنها كانت متميزة بموقعها حيث كانت الغرف الخلفية لها تطل على الحدائق الملكية التي لا يستطيع البصر الوصول إلى منتهاها، كما أن حديقتها كانت أكبر من الحدائق الأخرى وتحتوي على عدد من الأشجار أكثر من باقي الفيلات.
قبل أن أدخل المدرسة أرسلني أبي وأنا في الخامسة إلى كتاب الشيخ محمد عثمان لأحفظ ما تيسر من القرآن ولأتعلم القراءة والكتابة والحساب، كان الشيخ محمد هو إمام وخطيب المسجد الملكي، وكان بارعا في الخطابة مولعا بالقراءة، خبيرا في تعليم الصغار، وكان ينتحي بنا جانبا من المسجد قبل صلاة الظهر بساعتين فيأخذ في تحفيظنا قصار السور، والحروف الهجائية، فنخرج من الكتاب ونحن نُغني «ألفٌ باءٌ أبت ثجحٌ»، وعندما وجد شغفي بالحروف قال لي: أنت تذكرني بشاعر كبير خرج من كتابي هذا، سألته بنهم المتشوق للمعرفة: وما هو الشاعر؟
هو الذي يكتب الشعر.
وما هو الشعر؟
ألا تغني حينما تخرج من الكتاب مع رفاقك «أبت ثجحٌ»؟
يعني الشعر أغنية!
هو كذلك
ومن هو الشاعر؟
الشهيد هاشم الرفاعي.
اسمه «الشهيد»؟
لا اسمه هاشم، الشهيد يعني أنه مات في سبيل الله.
وما معنى «مات»؟
ألم تسمع عن الموت من قبل؟!!
كانت هذه أول مرة يحدثني فيها أحد عن الموت مباشرة، كان ذكر الموت يأتي عرضا في أحاديث البعض ولكنني لم أكن أتوقف عنده ، لابد أنه شيء مثل المرض، ولكن ذكره كان يخيفني ويجزع قلبي، يومها شرح لي الشيخ محمد طبيعة الحياة، ومن هو أبونا آدم، ولماذا خلقنا الله، والموت الذي هو نهاية كل حي، ويوم القيامة، والجنة والنار ويبدو أنه تعجب حينما سألته: هل يعرف كل واحد من الناس متى يموت؟
وقتها ابتسم دهشة وقال: علم ذلك عند الله، فقد أخفى عنا هذا السر.
ولماذا يخفي عنا؟
هو يخفي عنا أيضا موعد يوم القيامة؟
لماذا؟
حتى نعبده حق العبادة، فلو عرفنا موعد موتنا لعبدناه فقط قبل الموت.
الموت، الموت، ظلت هذه الكلمة تتردد في أذني، وعندما كان الموت يرد على بالي كنت أرى بخيالي جسدا شفيفا أبيض لا ملامح له، ما هذا الخيال؟ ولماذا البياض هو الذي يظهر أمامي عند ذكر الموت؟! وعلى مدى عدة أيام كنت أرى أمي في الحلم وهي تبكي وتلبس السواد، وكنت أرى ضيوفا يدخلون إلى بيتنا والحزن يرتسم على وجوههم، ونساءً يبكين، وامرأة تولول، كنت أصحو فزعا، وأحيانا كنت أصحو باكيا، هرعت لي أمي تطمئن على حالي، ما الذي أفزعني في المنام، فرويت لها ما رأيته، فبسملت واستعاذت بالله من الشيطان الرجيم وطلبت مني أن أتفل ناحية اليسار ثلاث مرات ففعلتُ مثلما قالت، ثم أراحتني على الفراش ووضعت يدها على جبهتي وقرأت لي بضع آيات من القرآن حتى رحت في نوم عميق.
تكرر الحلم أكثر من مرة، وعرفتُ أن هذا النوع من الأحلام اسمه كوابيس، ولكن هل هذا كان كابوسا فعلا ؟ عندما أخذت أقص على أمي تفصيلات الحلم بدقة متناهية، كنت أرويه لها بصورتين، حيث كنت أعيش في أحداثه بشخصيتين، الشخصية الأولى هي أنا ذلك الطفل الصغير، أقف ساهما شاردا، أنظر بذهول إلى أمي وهي تبكي بحرقة وترتدي السواد، وإلى أطياف الضيوف الداخلين إلى البيت مقطبين مكفهرين، وإلى المرأة التي تولول، والشخصية الثانية هي أنا الذي يجلس وكأنه ينظر لشاشة كبيرة يرى فيها المشهد الفائت، قالت أمي وهي تحتضنني: يا ضنايا، عقلك يتذكر يوم ماتت جدتك، كنت قد بدأت تدخل عامك الثالث حينما ماتت، كان كل ما تراه هو ذكريات عقلك عن هذا اليوم، لم تنسه ولكنك دفنته في قلبك، لذلك تراه في الأحلام.
جدتي! جدتي لأمي! نعم أتذكر طيفها كملاك يرتدي البياض، كنت أنده عليها مثل كل الأحفاد في العائلة: نينا الحاجة ، أو نينا سيادة، وكان جدي العمدة يناديها دائما «بالحاجة سيادة»، كانت جدتي صاحبة عيون زرقاء ووجه أبيض مفرط في الطيبة والهدوء والاستكانة والرضا، كانت حكاءة ماهرة بالفطرة، أتذكرها وهي تحكي لي وأنا في حضنها وهي جالسة متربعة على سريرها، حدوتة الشاطر حسن وست الحسن والجمال، وحدوتة قطر الندى، وحدوتة الشاطر حسن والشاطر محمد والشاطر عليّ الدين، ومغامرات علي الزيبق المضحكة، وحينما كنت أضحك بسبب مقلب من مقالب علي الزيبق كانت جدتي تزيد من جرعة ضحكاتي فتزغزغني من باطن قدمي الصغير فتتقطع أنفاسي من كثرة الضحك، فتقول لي بطيبة مفرطة: هاموتك من الضحك يا ابن بنتي، فأقوم هاربا من أمامها.
لا أعرف لماذا كان الموت شريكا لنا في الحوادث المفرحة أو التي فيها شغب، رغم أنه في حقيقته كئيب مقبض، أبي عندما كان يغضب عليَّ غضبا مصطنعا يقول مهددا وهو يهم بالقيام: هاموتك من الضرب، فأجري من أمامه وأنا أكتم ضحكاتي، وجدتي تقول لي: هاموتك من الضحك، وأختي الكبرى تقول لي عندما تتصاعد شقاوتي: باموت فيك، فكنت أظن أن الموت حياة، وإذا بي أفجع عندما أعرف أن الموت موت، نهاية للحياة، ولكن الشخصية المصرية الغريبة طوَّعت الموت فجعلته حياة، في مصر يصبح الموت طوعا للحياة، حتى أن الشاعر عبد الرحمن يوسف وجد هذه اللمحة في الشخصية المصرية فكتب في قصيدة «الراحلون بلا قبور»:
في مِصْرَ قَدْ تَبْدُو طُقُوسُ الدَّفْن ِللعَيْن ِالغَريبَةِ ذُرْوَة َاسْتِسْلام ِ شَعْبٍ للدِّيَانَاتِ القَدِيمَةِ والسَّلاطين ِ العُتَاة.
لَكِنْ طُقُوسُ الدَّفْن ِفي مِصْرَ اخْتِرَاعٌ عَبْقَريٌّ يَسْتَعِيدُ بِهِ الفَقِيدُ وُجُودَهُ في قَلْبِ مَنْ عَرَفُوهُ عَبْرَ العُمْر كَاليَخْضُور ِ يَجْري في النَّبَات.في مِصْرَ تَخْتَزِلُ الجِنَازَة ُ كُلَّ أشْكَال ِ الحَياة ْ.
استمر الحلم معي لا يفارقني حتى أصبت بحمى رفعت حرارتي وجعلتني أدخل في هذيان، تردد عليَّ بالبيت الدكتور جورج ميلاد طبيب المنطقة وصديق أبي، كنت أنظر إليه بوهن وأنا أراقب ما يفعل، فكان يعطي الحقنة لعم «عبيد» الذي يعمل عندنا في البيت ويطلب منه غليها في الماء، فإذا تم غلي الحقنة كان يخترق بسنها غطاءً مطاطيا لزجاجة صغيرة، ثم يسحب السائل الذي في الزجاجة ويحقنني به فتند عني صرخة مكتومة متأوهة، كانت يد عمي الدكتور جورج خفيفة جدا ولكن الخوف أحيانا يصنع الألم.
وبعد أن اقتربت من الشفاء أعدت لي أمي فرخة مسلوقة، وطلبت مني أن آكل منها ما أستطيع، راقبتني وأنا آكل، ثم قالت متعجبة: كل ده كان في قلبك وكاتمه، حزنت على جدتك التي ماتت من سنتين، ولم تعبر عن حزنك إلا هذه الأيام!
فرغت من الطعام فأغلقت أمي نور الغرفة وقالت لي نم بسلام، وقبل أن أهم بالنوم سمعت صوت امرأة آتيا من الصالة يقول: دي عين وصابته يا بنت خالتي.
دخلت المرأة إلى الحجرة فلم أتبين ملامحها، ولكنني وجدتها تحمل ورقة، أغمضت عيني وأخذت أستمع للحديث، إذ تقول المرأة: خمسة وخميسة في عيون الحاسدين، أنا جبت له عروسة ورق كي أبطل العمل المعمول له، هاتي لي إبرة وركية نار، أخذت أستمع للمرأة وهي تتلو بعض الكلمات التي لم أفهم معناها، ولكنها كانت كلمات منغمة، تعجبت، هل هي شاعرة مثل هاشم الرفاعي؟!
وعندما تسارع صوتها وارتفع فتحت عينيَّ ونظرت إليها مدققا، فوجدتها متشحة بالسواد ولكن يبدو عليها أنها أكبر من أمي سنا، بحلقت في وجهها ثم صرخت منزعجا، فقد كانت هي المرأة التي تولول في الحلم.
أصبحت من بعدها أخاف من خالتي مفيدة ابنة خالة أمي، مجرد ذكر اسمها يثير في نفسي حالة من الانقباض، إلا أنني كنت أحمد الله لأنها لا تأتي لزيارتنا إلا نادرا، نكاد لا نراها إلا في الملمات، وأكاد أقسم أن عقلي الواعي لا يتذكرها إلا بدءًا من ذلك اليوم الذي جاءت فيه لزيارتي إذ كنت محموما، وقد اعترتني دهشة ممزوجة بالخوف، كيف تكون هذه المرأة التي أمامي هي نفسها المرأة التي كنت أراها في أحلامي، أختي الكبرى مجيدة التي كانت في الصف السادس الابتدائي وقتها، والتي أرشدتني فيما بعد لطريق القراءة قالت لي: هذا طبيعي فعقلك الباطن يتذكرها، كانت خالتك مفيدة تنوح وتولول يوم أن وصل لنا خبر موت جدتي سيادة، نسيها عقلك الذي تفكر به، ولكن عقلك الباطن ظل محتفظا بالحدث.
قلت وأنا أنظر لها بعين جاحظة: وهل للبطن عقل؟ أنا أعرف أن العقل في الرأس، والمعدة في البطن كما قلتِ لي من قبل، فهل هناك عقل احتياطي في بطني بجوار معدتي؟!
أخذت مجيدة تشرح لي ولكنني لم أفهم نصف كلامها، بالكاد عرفت أن الأشياء المؤلمة يخفيها الواحد منا ولا تستدعيها ذاكرته، ولكنها تظل مخبوءة في مكان سري بالإنسان، فأخذت أفكر بجدية : «يجب أن أخترع ذات يوم اختراعا يمنع الذكريات من الدخول إلى العقل الباطن، يجب أن يتذكر الإنسان كل الأشياء، ليس عليه أن ينسى».
النسيان رحمة من الله: هكذا قال لي الشيخ محمد عثمان عندما ذهبت إليه في الكتاب بعد شفائي، ثم استطرد: وما سمي الإنسان إنسانا إلا لأنه ينسى، ثم قرأ لي من القرآن «ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما»، أخذت أستحثه كي يروي لي المزيد من قصة سيدنا آدم وستنا حواء، فروي لي الكثير، ثم قال: وبعد أن نزل آدم إلى الأرض أصبحت ذريته مثله، تنسى، والنسيان رحمة من الله.
سألته: ومن الذي جعله ينسى؟
الله.
ولماذا عاقبه إذن على النسيان؟
ومن قال إن الله عاقبه؟
ألم يطرده من الجنة؟
لا لم يطرده، الله خلق سيدنا آدم ليكون في الدنيا، والجنة هي مكافأته يوم القيامة، ولكنه جعله ينسى لحكمة عنده، فخرج من جنة الخلق، فجنة آدم لم تكن هي جنة الآخرة، ولكنها كانت جنة أخرى خلقه الله فيها، والله يا بُني لا يعاقب على النسيان، فرسولنا الكريم يقول: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه؛ لولا النسيان يا بُني لمات الإنسان من الهموم، الحزن في أوله يولد كبيرا جدا، كأنه أكبر عملاق في الدنيا، شايف قصر الملك كبير إزاي؟ الحزن في أوله يكون مثله، ثم برحمة الله يصغر هذا العملاق المزعج، ويظل يصغر ويصغر حتى يتلاشى.
ثم وضع إصبعه على سجادة المسجد فعلقت بها ذرات من التراب ، واستطرد: أو يصبح صغيرا مثل ذرة التراب، ولولا هذا لكبس الحزن على أنفاسنا وما تحركنا على الأرض خطوة...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.