ننشر خطة التأمين الطبي لاحتفالات عيد القيامة وشم النسيم    منخفضًا 0.5%.. تراجع أسعار الذهب في مصر للأسبوع الثاني    محافظ أسوان يتابع نسب التنفيذ ب53 مشروعا بقرية وادي الصعايدة بإدفو    تطورات مفاوضات اتفاق وقف إطلاق النار في غزة برعاية مصرية.. «تقدم ملحوظ»    وزير الرياضة يُشيد بنتائج اتحاد الهجن بكأس العرب    في أسبوع المرور العربي.. رسالة من الأمين العام لمجلس وزراء الداخلية العرب    ضبط 22 ألف قرص تامول مخدر تقدر ب2 مليون جنيه في مطروح    عضو ب«النواب»: توعية المواطنين بقانون التصالح خطوة مهمة لسرعة تطبيقه    تسلم 102 ألف طن قمح من المزارعين في المنيا    القوات المسلحة تهنئ الإخوة المسيحيين بعيد القيامة المجيد    الرئيس السيسي يعزي رئيس مجلس السيادة السوداني في وفاة نجله    رئيس الوزراء يتفقد عددًا من المشروعات بمدينة شرم الشيخ.. اليوم    صراع الهبوط في الدوري المصري .. ثنائي جماهير تحت التهديد    موسم عمرو وردة.. 5 أندية.. 5 دول.. 21 مباراة.. 5 أهداف    «رونالدو» يقود الهجوم.. تشكيل النصر المتوقع أمام الوحدة في الدوري السعودي    ضياء السيد: أزمة محمد صلاح وحسام حسن ستنتهي.. وأؤيد استمراره مع ليفربول (خاص)    "تنسيقية شباب الأحزاب" تهنئ الشعب المصري بعيد القيامة المجيد    محافظ الوادي الجديد يهنئ الأقباط بعيد القيامة المجيد    تفاصيل إصابة 3 أشخاص في حادث تصادم سيارة شرطة يالدقهلية    تأجيل محاكمة عاملين بتهمة قتل مواطن في الجيزة    كل عضو بسعر بالملايين.. اعترافات تقشعر لها الأبدان للمتهم بذبح طفل شبرا الخيمة    عيد العمال.. مدارس التكنولوجيا التطبيقية طريق الفنيين للعالمية    اليوم.. إعادة فتح البوابة الإلكترونية لتسجيل استمارة الدبلومات الفنية 2024    علي ربيع الأضعف جماهيريًا الجمعة.. تعرف على إيرادات فيلم عالماشي    تقديرًا لدوره الوطني خلال حرب أكتوبر.. «الوطنية للإعلام» تنعى الإعلامي الراحل أحمد أبوالسعود    مي سليم تروج لفيلمها الجديد «بنقدر ظروفك» مع أحمد الفيشاوي    "السياحة" في أسبوع.. مد تحفيز برنامج الطيران العارض.. والاستعداد لموسم الحج    ما حكم تهنئة المسيحيين في عيدهم؟ «الإفتاء» تُجيب    مستشار الرئيس للصحة: مصر في طريقها للقضاء على مسببات الإصابة بسرطان الكبد    شم النسيم.. تعرف على أضرار الإفراط في تناول الفسيخ    الكشف على 2078 حالة في قافلة طبية ضمن «حياة كريمة» ببني سويف    تفاصيل مشروعات الطرق والمرافق بتوسعات مدينتي سفنكس والشروق    وزير الري: نعمل على توفير حياة كريمة للمواطنين بالصعيد    الدكتورة رانيا المشاط وزيرة التعاون الدولي تُناقش آفاق التعاون مع وكالة تمويل الصادرات البريطانية    الدفاع الأوكرانية: تمكنا من صد عشرات الهجمات الروسية معظمها بالقرب من باخموت وأفديفكا    كوريا الجنوبية: ارتفاع عدد الهاربين للبلاد من الشمال لأكثر من 34 ألفا    الصحة السعودية تؤكد عدم تسجيل إصابات جديدة بالتسمم الغذائي    إندونيسيا: 106 زلازل ضربت إقليم "جاوة الغربية" الشهر الماضي    مصرع 14 شخصا إثر وقوع فيضان وانهيار أرضي بجزيرة سولاويسي الإندونيسية    برج «الحوت» تتضاعف حظوظه.. بشارات ل 5 أبراج فلكية اليوم السبت 4 مايو 2024    ما حكم الإحتفال بشم النسيم والتنزه في هذا اليوم؟.. «الإفتاء» تُجيب    إيرادات فيلم السرب على مدار 3 أيام عرض بالسينما 6 ملايين جنيه ( صور)    إسماعيل يوسف: كهربا أفضل من موديست.. وكولر يحاول استفزازه    هل بها شبهة ربا؟.. الإفتاء توضح حكم شراء سيارة بالتقسيط من البنك    حملات لرفع الإشغالات وتكثيف صيانة المزروعات بالشروق    «أتوبيسات لنقل الركاب».. إيقاف حركة القطارات ببعض محطات مطروح بشكل مؤقت (تفاصيل)    «الإسكان»: دفع العمل بالطرق والمرافق بالأراضي المضافة حديثاً لمدينتي سفنكس والشروق    عاجل| مصر تكثف أعمال الإسقاط الجوي اليومي للمساعدات الإنسانية والإغاثية على غزة    الصحة توجه نصائح هامة لحماية المواطنين من الممارسات الغذائية الضارة    بايدن يتلقى رسالة من 86 نائبا أمريكيا بشأن غزة.. ماذا جاء فيها؟    محمود بسيوني حكما لمباراة الأهلي والجونة في الدوري    «سببت إزعاج لبعض الناس».. توفيق عكاشة يكشف أسباب ابتعاده عن الإعلام    المطرب هيثم نبيل يكشف كواليس فيلم عيسى    حفل ختام الانشطة بحضور قيادات التعليم ونقابة المعلمين في بني سويف    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة العودة
نشر في بص وطل يوم 26 - 10 - 2009

كم أحب الأفراح.. هذه حقيقة لا أستطيع أن أنكرها. أحب الصخب و الألوان الزاهية.. *(،) و الأضواء المتلألئة.. (،) و الضحكات الفرحة.. الناس و الزحام.. هنا تحس أنك تتنفس حياة.. ولكن هذا الفرح بشكل خاص لم يكن من النوع الذي يمكن أن أحبه.. كنت حديث الزواج و الفرح (والفرح) هو لعائلة زوجتي العريس هو إبن (ابن - همزة وصل) عمها أو إبن عمتها لا أذكر تحديدا ً و بالطبع لم أكن أعرف من الموجودين أكثر مما يمكن يعد على أصابع اليدين.. و مع ذلك شاء القدر من أجل المزيد من العذاب أن أجلس على مائدة مع بعض معارف العروس.. فقد وصلنا متأخرين أنا و زوجتي بعد أن إمتلأت (امتلأت) قاعة الفرح.. فلم يجد لنا ذلك الرجل الوقور الذي إستقبلنا (استقبلنا) سوى هذا المكان مع عدد من أقارب العروس حاول أن يعرفنا بهم ولكنه إكتشف في النهاية أنه هو نفسه لا يعرفهم.. وهكذا راضياً اتخذت موضعي.. وراضيا ً أيضا ً سمحت لزوجتي بأن تتركني قليلا ً لكي تذهب مع بعض الفتيات من أقاربها أتوا ليرحبوا بي و أنا أصلا ً لا أعرفهم.. بعد مرور نصف الساعة إكتشفت أن سماحي لها بأن تتركني كان خطأ ً جسيما ً وذلك عندما إكتشفت أنها لم تعد حتى الآن.. حتى مقعدها بجواري إحتلته إمرأة بدينه ثرثارة من أقارب العروس لم تكف عن الكلام بصوت صارخ لكي يعلو فوق صوت الغناء.. وهكذا وجدت نفسي صاغرا ً محاصرا ً وسط حديث شيق لنخبة من أقارب العروس..

بعد فترة أرسلت بصري في كل مكان أبحث عن زوجتي.. فهي ما أن تركتني حتى تحولت إلى طيف.. لا تقع عيني عليها إلا مصادفة.. مرة حول ساحة الرقص.. و مرة بجوار والدتها.. و مرة وسط قريباتها من الفتيات.. هذه المرة لم أرها في أي مكان.. ربما كانت مختفية عن نظري وسط الزحام و ما أكثره في هذا المكان.. بينما كنت مرغما ً على متابعة حديث شيق يدور بين شركائي في المائدة عن الأسباب و الملابسات التي جعلت أبو عبير يرغب بشدة في فسخ خطبة عبير..

1 بداية غريبة لأحداث أكثر غرابة..

مضى وقت طويل و لم يتغير الوضع.. بدأت أشعر بإختناق.. فعلي وليس مجازي.. مددت يدي أوسع رابطة العنق عن رقبتي متجاهلا ً ذلك الألم المفاجئ الذي بدأت أشعر به في كتفي الأيسر عندما وجدت يدا ً توضع فوق كتفي.. إلتفت لأجد فتاة لا أعرفها.. كانت في عمر زوجتي تقريبا ً، باهرة الجمال، مع مسحة واضحة من الأحترام.. عندما إلتقت عينانا إبتسمت لي و هزت رأسها محيية.. بادلتها نفس الطقوس مندهشا ً.. كيف حالك يا أستاذ أحمد ؟ و كيف حال يسرا ؟ كانت تعرفني و تعرف زوجتي.. أجبتها أن الحمد لله منتظرا ً أن تعرفني بنفسها.. هنا لاحظت في الثواني التي أتيح لي فيها تأملها أن مظهرها لم يكن أبدا ً يشبه مظهر فتاة قادمه إلى حفل زفاف بأي شكل من الأشكال.. كانت بلا زينه تماما ً.. شعرها مربوط خلفها برشاقه كذيل الحصان.. ملابسها بسيطة جدا ً و كأنها ذاهبة إلى الجامعة لا إلى فرح.. بل أن الفتيات في الجامعة حتى يكن أكثر كلفة و تبرجا ً منها.. أخرجتني من تأملي السريع عندما تابعت بنفس اللهجة الودودة.. أين هي.. ؟ أنا لا أرها.. مرة أخرى أجبتها بأقتضاب بأن زوجتي قد تكون هنا أو هناك.. هزت رأسها بمرح وهي تقول بطريقة هادئة.. بلغها تحياتي إذا ً.. قالتها و إستدارت مبتعدة.. هذه المرة وجدت الشجاعة لكي أناديها.. لو سمحت.. لم تنتبه لي و واصلت طريقها مبتعدة.. و أمام نظراتي المندهشة وجدتها تتجه إلى خارج القاعة.. ووجدت نفسي أنهض مسرعا ً لأتبعها.. كنت أريد أن أعرف من تكون.. فأنا لم أرها من قبل بين أقارب زوجتي أو أصدقاؤها (أصدقائها).. ثم كيف لها أن تظهر هكذا فجأة لتسأل عن زوجتي ثم تترك الحفل و ترحل.. هكذا بمنتهى البساطة.. و كأنها كانت مارة من هنا مصادفة.. مشيت خطوتين لأدركها ببصري تجد الخطى في الردهة الخارجية.. إخترقت مجموعة من الأجساد ثم ناديتها مجددا ً.. لو سمحت.. كانت هي قد وصلت إلى الباب الخارجي بالفعل عندما بلغها صوتي.. هذه المرة إلتفتت تجاهي.. رأتني قادما ً بإتجاهها فما كان منها إلا أن إستدارت مواصلة ً طريقها للخارج بسرعة.. أصابني تجاهلها المتعمد لي بالحنق فأسرعت الخطى خلفها.. عبرت الباب.. إلى الطريق وهواء الليل شديد البرودة.. كان الطريق خاليا ً و مظلما ً في هذا الوقت المتأخر من الليل.. و خاليا ً هذه أعني بها أنه كان خاليا ً !! بمعنى أنه لم يكن هناك أثرا ً لأي مخلوق غيري.. خاليا ً تماما ً.. لا ناس.. لا سيارات تتحرك.. أو حتى واقفة.. لا فتاة.. تلك الفتاة التي خرجت للطريق أمامي منذ لحظات.. لا أثر لها في الطريق.. نظرت في الإتجاهين.. لا شيء.. كيف هذا ؟ لست أدري.. قررت أن أنسى الأمر و أعتبره لم يكن.. و هكذا إستدرت عائدا ً إلى القاعة.. و في مواجهة بابها وجدت شيئا ً غريبا ً.. الباب مغلق.. و الظلام باد من خلال الواجهة الزجاجية للقاعة.. حتى اللافتة المضيئة التي تحمل أسم القاعة.. كانت مطفأة.. لا أضواء ملونة.. لا أصوات.. لا فرح.. المكان مهجور تماما ً.. للمرة المليون في حياتي شعرت بالسعادة و الإمتنان لبرودة أعصابي.. شخص غيري كان من المحتمل أن يخر صريعا ً من الخوف.. أما أنا فقررت أن أبحث الأمر أولا ً.. بمنتهى الهدوء إقتربت من الباب.. طرقته بقوة مرة.. فالثانية.. فالثالثة.. حتى وجدت من يسأل بصوت صارم.. ماذا تريد ؟ كان الصوت على غير ما إنتظرته قادما ً من خلفي.. أجفلت لأرى خفيرا ً ما قادما ً من مكان ما.. صعيدي كالعادة.. يتسلح بنبوت ضخم بدلا ً من البندقية.. وقف أمامي متكئا ً عليه في إحساس واضح بالعظمة.. ألا يوجد أحد في تلك القاعة.. ؟ نظر إلي الرجل نظرة صارمة متفحصة.. ثم أجابني بطريقة تؤكد شكه في قواي العقلية.. ماذا ترى يا أفندي ؟.. القاعة مغلقة أمامك كما ترى.. قالها وهو يشير إلى موضع ما بالباب.. نظرت لما يقصده.. فوجدت قفلا ً ضخما ً صدئا ًيغلق الباب.. عندما لاحظ الخفير نظراتي للقفل تابع.. هذه القاعة مغلقة منذ سنوات.. هذه المرة لم أجد ما أقوله.. مع ذلك نحيت فكرة الهلع جانبا ً.. قدرت أن الإحتفاظ برجاحة عقلي أفضل بالنسبة لي.. هل تبحث عن شخص ما.. ؟ قالها الخفير بمزيد من الشك البوليسي.. و أطبق بكلتا قبضتيه على النبوت في وضعية إستعداد منتظرا ً إجابتي.. كان تهديده واضحا ً.. لذا قررت كالعادة أن أوثر السلامة.. فهززت رأسي أن لا.. و أنا أتمتم.. أنا فقط أريد العودة إلى بيتي.. ثم تركته و انطلقت في إتجاه معاكس..

2 مغامرة صبيانية..

إعتدت طوال حياتي على النظر إلى الأمور بواقعية.. و هذا قد يعني بمعنى آخر أنني إعتدت الرضوخ للأمر الواقع.. لهذا لم أتوقف طويلا ً عند ما حدث طالما أنه قد صار واقعا ً علي أن أتعامل معه.. و كذلك عندما لم أجد سيارتي واقفة في مكانها.. فأنا نوعا ًماَ كنت أتوقع أمرا ً كهذا.. فالعالم بدا لي أصلا ً وقتها عالم بلا سيارات.. لذلك بدأت صاغرا ً أقطع طريق العودة إلى البيت سيرا ً على الأقدام.. أغلقت سترتي لأتقي البرد القارص في هذا الوقت من الليل.. بالرغم من أنني لم أستطع التعرف على الوقت بسبب توقف ساعتي عند الحادية عشر و هو وقت بدء الفرح تقريبا ً.. إلا أنني قدرت أن الساعة قد تجاوزت الثانية صباحا ً الآن..

كان الطريق الذي تقع فيه القاعة طويلا ً و مظلما ً.. إمتلأ جانبيه بأسوار الفيلات التي تتوارى خلف ستار كثيف من الأشجار العجوز المزروعة على جانبي الطريق.. ذكرني ذلك المشهد بشارع صغير كان مجاورا ً لشارعنا في صغري.. إعتدت أنا و أصدقائي أن نمارس ألعابنا فيه لما يتميز به من هدوء وظل دائمين.. غرقت لفترة في تلك الذكريات حتى وقعت عيناي على أول كائن حي أراه منذ أن غادرت الفرح.. أمامي على بعد خطوات قليلة كان ذلك الغلام الصغير سائرا ً محني الظهر محاولا ً أن يحمل عليه ذلك السلم الخشبي الضخم.. أسرعت الخطى نحوه حتى أدركته.. مددت يدي.. رفعت السلم معه.. عندما شعر بي إلتفت نحوي.. ابتسم لي شاكرا ً.. ثم واصل الإنتباه لطريقه و كأنني غير موجود.. لمسافة غير قصيرة حملت السلم معه دون أن نتحدث مع بعضنا ولو بكلمة واحدة.. حتى شعرت بالملل.. قررت أن أصنع بعض الود في ذلك الموقف الجامد.. قلت له.. فيم ستستخدم هذا السلم .؟ أجابني ببساطة.. لكي أصعد لأعلى.. أشعرتني اجابته بغبائي لأنني لم أنتبه لهذا السبب البديهي.. و لكنني بإصرار أحمق واصلت التساؤل.. إلى أي أعلى تحديدا ً.. ؟ رفع الغلام رأسه إلى أعلى ينظر هنا وهناك.. كأنما هو يبحث عن مكان يمكن أن يصعد إليه.. ثم أجاب.. إلى أي مكان.. هنا جال برأسي خاطر أن يكون هذا الغلام لصا ً.. و لكنه بدا لي أصغر سنا ً من هذا الأحتمال.. سألته.. كم عمرك ؟ قال.. إحدى عشر عاما ً.. بالفعل هو أصغر من أن يكون لصا ً.. ثم هناك شيء ما به يذكرني بطفولتي.. لذا قررت أن أثق به.. عندها طلب مني أن أتوقف.. توقفنا تحت شجرة عجوز وافرة الأغصان.. تعلقت عيناي بها لبعض الوقت.. ذكرتني بتلك الشجرة العجوز التي كانت في الشارع المجاور لنا.. كانت شجرة تشرف على سور إحدى الفيلات.. إعتدنا أنا وأصحابي أن نتسلقها مختبئين وسط أغصانها الكثيفة لنرى ذلك الإختراع العجيب الذي لم نكن نراه إلا في التليفزيون.. حمام السباحة الخاص بالفيلا.. و الذي زاد تعلقنا به عندما إكتشفنا تلك الفتاة التي تزوره كثيرا ً بثوب إستحمام من قطعتين.. كانت وقتها بالنسبة لنا أسطورة قادمة من ألف ليلة و ليلة.. لم أستطع حتى بعد كل تلك الأعوام أن أنساها.. جسدها الأبيض.. بتفاصيله التي كنت أتعرف عليها للمرة الأولى.. و مداعبة الشمس له أثناء خروجه من الماء.. فتتلألأ حبات الماء الملتصقة به في وجوهنا.. فنفغر أفواهنا أمام ذلك الجسد المصنوع من كريستال.. ويغرق كل منا في ألف حلم..

توقفت عن تأملاتي عندما بدا لي ذلك السور خلف الشجرة التي توقفنا تحتها.. ساعدت الغلام على وضع السلم أمام الشجرة.. عندها وجدته يقول لي.. هيا.. إصعد.. نظرت إليه مندهشا ً.. ماذا ؟ بنفس الثقة المريبة قال لي.. إصعد.. إلى أعلى الشجرة.. هنا لم يكن أمامي إلا الإبتسام قائلا ً.. لماذا ؟ مط الغلام شفتيه بمعنى.. لست أدري.. فقلت له و أنا أهم بالإنصراف.. حسنا ً.. عندما تعلم إتصل بي.. بمجرد أن إستدرت مبتعدا ً عنه.. سمعته يقول.. إذا ً فأنت خائف.. شعرت بالدماء تغلي في رأسي لكلمته تلك.. إستدرت ناظرا ً إليه بكل التحدي الموجود على الأرض.. إجتاحني نفس ذلك الأحساس القديم من أيام المراهقة الأولى.. النار الحارقة التي كانت تشعلها في أعماقي تلك الكلمات المستفزة لرجولتي الوليدة.. فتشعل بداخلي محركات المغامرة فتدفعني إلى إرتكاب ألاف الحماقات.. هكذا و بدون أن أوجه إليه كلمة واحدة إتجهت إلى السلم و صعدته حتى أعلى الشجرة.. جلست على أحد الأغصان.. و سددت للغلام أسفل مني نظره إنتصار ساحقة.. نظر إلي مبتسما ً.. فأشحت بوجهي بعيدا ً عنه.. و جدت عندها نظري يعبر السور المجاور للشجرة إلى حديقة الفيللا الكائنة خلفه.. مرة أخرى شردت مع ذكرياتي.. تحديدا ً إلى ذلك اليوم الذي لاحظتنا فيه الفتاة و نحن نختبئ بين أغصان الشجرة.. نادت مذعورة بإسم رجل ما فأتاها راكضا ً.. أشارت نحونا قائلة ً شيئ ما.. شعرنا لحظتها بكل هلع الدنيا يجتاحنا.. ودون أن نشعر قفزنا من فوق الشجرة إلى الأرض مباشرة ً.. و دون كل أصدقائي.. كسرت قدمي.. و صار علي أن أشرح ما حدث لأبي.. و هو أمر يحتاج إلى قدرات أسطورية.. عند هذه النقطة عدت من ذكرياتي لأجد أن الغلام قد إختفى.. لا أثر له.. لا تحت الشجرة.. و لا في أي مكان أخر.. و الشيء الأظرف أن السلم أيضا ً قد أختفى.. و هكذا كان علي أن أقفز.. حاولت بكل جهدي أن أدلي جسدي من الشجرة لأطول مسافة ممكنه حتى أقلل من مسافة القفز.. إستخدمت في ذلك كل البطء و الهدوء و القوة العضلية التي أملكها.. و في النهاية جاء أصطدام قدمي بالأرض أقل ألما ً مما توقعت..

3 نزهه ليليه بالسيارة..

بلا ملل واصلت طريقي.. قطعت ربما ألاف الأمتار.. و إجتزت ربما مئات الشوارع.. و بدا لي البيت بعيدا ً.. و لكنني كنت أعلم جيدا ً أصول اللعبة.. هذا النوع من المشاوير.. دائما ً ما يبدو لنا في أوله أنه بلا نهايه.. مشي.. مشي.. ثم المزيد من المشي.. و لا نصل إلى شيء.. دائما ً ما تبدو لنا المسافة بعيدة و غاياتنا لا تظهر في الأفق.. و لكن في النهاية.. و عندما نصل.. ننظر وراءنا.. لنرى كم مشينا.. فلا نتذكر إلا مسيرة ثوان قليلة.. و كأننا كنا هنا منذ الأزل و لم نقطع كل تلك المسافات.. شعرت بربطة العنق تكتم أنفاسي بالرغم من برد الليل.. خلعتها عن عنقي متذكرا ً كم كنت أكرهها في أيام شبابي الأولى.. وكم كنت أثور على أرتدائها إذا ما أضطرتني الظروف إلى ذلك.. وضعتها في جيب السترة و واصلت الطريق.. بعد خطوتين و جدت نورا ً يمتد أمامي فجأة قادما ً من خلفي.. و ظلي فوق الأرض يستطيل بسرعة رهيبة أمامي.. كان هذا بالتأكيد تأثير ضوء سيارة قادمة من خلفي.. سيارة ؟! أخيرا ًً.. تنحيت جانبا ً.. نظرت خلفي لأجدها تقترب بسرعة.. فكرت أن أحاول إيقافها لأطلب من سائقها أن يوصلني.. لكنني تراجعت عندما رأيت ركابها.. رأيتهم عندما توقفت السيارة فجأة بجواري بعد فرملة قوية أحدثت صريرا ً عاليا ً جعلت مؤخرة السيارة تنتفض بقوة.. كان بالسيارة أربعة شبان يبدون في مرحلة متقدمة من المراهقة.. يضحكون فرحين بتلك الحركة التي فعلوها بالسيارة و التي تمثل لهم بالتأكيد قمة الروشنة.. و من نافذة السائق أطلت رأس ما هي بالتأكيد للسائق.. كانت الرأس عبارة عن شعر ثائر تحته نظارة سوداء معتمة تماما ً ( في هذه الساعة من الليل !!).. أشار إلي صاحبها بيد تدلت منها سيجارة ذات مظهر أعرفه جيدا ً.. و صاح.. إركب.. لماذا يعتقد كل من أقابله في تلك الليلة أنني مستعدا ً لتنفيذ أوامره بهذه البساطة.. هنا أطلت رأس أخرى من النافذة التي تقع خلف السائق.. رأس عبارة عن شعر ثائر تحته نظارة سوداء معتمة تماما ً.. أشار إلي صاحبها بيد تدلت منها نفس السيجارة.. و صاح.. هيا لا تضيع الوقت.. هنا و جدت أنه من المناسب أن أنطق.. لماذا ؟ قال السائق.. لأنك تبدو لنا شريدا ً و وحيدا ً و تائها ً.. فكرت لوهلة أنها فرصة لعودة سريعة إلى البيت.. هم من عرضوا علي أن يوصلوني.. أنا لم أطلب ذلك من احد.. و لكن هل يمكن أن أثق بهم.. ثم من قال أنهم يريدوا أن يوصلوني.. لذلك سألت.. و ما الذي يغريني بالركوب معكم ؟ أخرج الشاب الجالس خلف السائق يده الأخرى من النافذة ليريني زجاجة البيرة التي أطبقت عليها أصابعه.. من أجل هذه.. ثم لوح بيده التي تحمل السيجارة.. و هذه.. و هكذا بدت لي أهدافهم واضحة.. بعض المتعة فقط.. هنا بدا علي الإقتناع.. فركبت معهم.. بصراحة لم يكن لي أن أرفض عرضا ً كهذا.. عرضا ً يعيد إلي الكثير من ايام مراهقتي المفقودة.. أيام السهر للصباح.. و النزهات الليلية بسيارة محمد فراج.. أيام الحشيش و البيرة و معاكسة الفتيات.. أيام شقة الهرم و أفلام البورنو القادمة رأسا ً من فرنسا مع شقيق محمد.. عدت من الماضي إلى الحاضر لأجد نفسي محشورا ً في المقعد الخلفي لسيارة حديثة الطراز مع أربعة شبان لا يميزهم شيء سوى أنهم كلهم يمتلكون نفس الشعر الثائر و يرتدون نفس النظارة السوداء المعتمة تماما ً.. إنطلقت السيارة بسرعة رهيبة متناسبة مع إيقاع الأغنية الأجنبية الصاخبة التي يبذل مطربها كل ما يملك من جهد ليثقب طبلة أذني.. لذا وجدت نفسي أصيح بهم.. النبي عربي.. ضحك الأربعة.. و مد الشاب المجاور للسائق يده ليغير الشريط.. ثوان و إنطلق صوت عمرو دياب من سماعات المسجل.. و بصوت عال بدأ الأربعة يغنون معه تلك الأغنية سريعة الإيقاع.. و مع الوقت وجدت نفسي أغني معهم الأغنية التي لا أعرف كلماتها أصلا ً.. و عند المقطع الثاني من الأغنية أشعل أحدهم سيجارة و ناولني إياها.. سحبت مجموعة أنفاس سريعة فشعرت بذلك الإحساس الذي كنت قد بدأت أنساه.. هذه السيجارة رائعة.. لم يكن هذه الأحساس على أيامنا.. قال لي أحدهم..
-الدنيا تتطور يا بيه.. السجائر الآن بتتلف بالكمبيوتر.. ضحك الأربعة بصوت عال و ضرب أثنان منهما كفيهما ببعض.. هنا كانت الأغنية الصاخبة قد إنتهت و بدأت بعدها أغنية أخرى.. حزينه هذه المرة.. يستعطف فيها عمرو حبيبته التي تركته لسبب ما..
-غير يا بني.. كدة الدماغ تضيع..
قالها الشاب ذو الشعر الثائر و النظارة المعتمة.. قام الشاب المجاور للسائق بدوره و غير الشريط مرة أخرى و هو يقول..
-كده يبقى ما ينفعناش إلا ده.. قالها وهو يضغط زر التشغيل لينطلق صوت مطرب ما يغني متغزلا ً في العنب.. و بدأت و صلة أخرى من الصخب في السيارة المسرعة.. في حين و جدت نفسي أعلق على الأغنية قائلا ً.. هو الراجل ده كان جعان ولا إيه ؟ بسرعة بادرني أحدهم معلقا ً.. إيه يا باشا ؟إنت وصلت ؟ حمدالله ع السلامة.. لينفجر الأربعة في وصلة ضحك أخرى و أنا معهم هذه المرة.. ناولني أحدهم زجاجة بيرة مستوردة.. رفضتها قائلا ً.. لا كدة تمام أوي.. كفاية عليا الهوا و ربنا يجعله عامر.. لفترة وجيزه أخذت أتأمل الشوارع التي نقطعها بتلك السرعة الجنونية.. كان هناك الكثير من الأضواء لمحلات و كازينوهات و لكن لا ناس و لا سيارات.. فقط أضواء و ضجيج.. تقريبا ً نفس الشوارع التي كانت تقطعها سيارة محمد فراج الفيات 127.. منذ حوالي عشرون عاما ً..
-الباشا بيشتغل إيه ؟ قالها الشاب الجالس بجواري ذو الشعر الثائر و النظارة المعتمة..
-والله يابني مانا فاكر.. قال شاب أخر.. عادي.. عادي.. دي كلها أثار جانبية.. قال أخر.. صح.. كان المفروض تقرا النشرة بتاعة السيجارة قبل ما تشربها.. مرة أخرى ضحكنا جميعا ً بهيستريا.. لأسباب تتعلق بما نشربه لا بما نقوله.. بعد دقيقة أو أثنتين شعرت بسرعة السيارة تقل.. خير.. وصلنا ؟ قال لي السائق.. صباح الخير يا دكتور.. إنت مش شايف و لا إيه ؟.

نظرت عبر النافذة ففهمت الأمر.. كانوا يعاكسون فتاتين ظهرتا فجأة في الشارع ترتديان ملابس لا تخفي شيئا ً..
-إيه ده ؟ فيه كده ؟
قلت لهم..
ياسلام.. على أيامنا لو البنت كانت بس لابسة بلوزة فتحة صدرها واسعة شوية.. ولا جيبة فوق القدم بعشرين سنتي.. كنا نمشي وراها بلاد.. إنما أنتو جيل متدلع.. ماشاء الله عليكم.. كل حاجة باينة.. قال أحدهم..
التطور ياباشا..
قال أخر.. أه.. دلوقتي الهدوم بتتقلع بالكومبيوتر.. في حين سألني السائق جادا ً..
إيه يا دكتور ؟ معانا في النظام ده..

هنا تذكرت المرة الوحيدة في حياتي التي حاولت فيها أن أفعل شيئا ً مماثلا ً.. كنا في شقة الهرم.. دخل علينا محمد فراج بصحبة فتاتين.. و بدأت حفلة صاخبة.. و عندما حان دوري فشلت في التنصل.. كلهم كانوا يعلمون أنها المرة الأولى لي.. و كلهم كانوا ينتظرون النتيجة.. بعضهم كان ينتظر فشلي حتى يجد مادة مسلية لباقي الليل.. و هذا ما كان سيحدث أيضا ً في حال رفضي.. و هكذا و جدت نفسي في حجرة النوم مع فتاة ملولة شاهدت في ليلة واحدة ما أفقدها حتى قدرتها المهنية على التمثيل أو النفاق الجنسي.. و من هنا حدث الفشل.. و تحولت إلى أضحوكة.. كان هذا وقتها هو أسود أيام حياتي.. و لكنني الآن وبعد كل تلك الأعوام أشعر بالإمتنان لذلك اليوم.. فبعد ما حدث.. و بدافع من الحرج و الشعور بالنقص.. قطعت علاقتي بتلك الشلة.. و بالتالي هجرت إلى الأبد تلك الحياة.. وبدأ فصل أخر من حياتي أكثر إنضباطا ً.. عدت من ذكرياتي على تساؤل ملح من السائق.. إيه يا دكتور ؟ روحت فين ؟
قلت له.. شردت قليلا ً..
كانت السيارة الآن متوقفة والفتاتان واقفتان أمام الباب تنتظران فرصة للركوب.. فهمت أن الإتفاق قد تم.. و ربما هم يريدون مقعدي للفتاتين..
- معانا ولا إيه ؟ قالها أحدهم فقلت له.. لا.. سوف أنزل هنا..
قال أحدهم.. يا راجل.. ببساطة كدة تسيب دول و تنزل.. ؟ قالها مشيرا ً إلى ثديي أقرب الفتاتين إليه.. فأجبته..
- أجل.. سوف أنزل هنا.. هكذا.. بمنتهى البساطة..

4 فنجان شاي مجاني..

نزلت من السيارة لأواصل رحلة عودتي.. لا أعرف أين أنا.. بدا لي كشارع تجاري.. المحلات و الكافيتريات تملأ جانبي الشارع.. الأضواء تغمره بشكل يعمي البصار.. و مع هذا كنت وحيدا ً.. لا ناس لا سيارات.. حتى المحلات بلا بائعين.. و لكنني لم أهتم و لم أفقد عزيمتي.. كنت مصرا ً على المواصلة حتى النهاية.. حتى أصل إلى الدار.. هنا و جدت نفسي أمر من أمام باب مغلق لما بدا لي ككافيتريا غربية الطراز.. و لكن الجديد هنا كان أصوات الناس القادمة من الداخل.. بلهفة دفعت الباب لأجد نفسي بالفعل في كافيتريا.. الجميل أنها كانت ممتلئة عن أخرها بالرواد.. أخيرا ً جو الزحام.. و صخب الناس الذي أحبه.. أخذت أتجول بين الموائد لا أنوي شيئا ً.. أتأمل أصناف الجالسين.. الغريب أنهم كانوا جميعا ً أزواجا ً.. شباب مع فتيات.. ذكرني بما كنا نطلق عليه أيام الجامعة مصطلح كافيتريات الحبيبة.. و كان هذا الجو ليس بالغريب علي.. فلطالما إرتدت أمثال تلك الكافيتريات مع ناهد أيام الجامعة.. وهنا بدت لي تلك الكافيتريا مألوفة.. إنها هي.. أجل هذا مؤكد.. إنها نفس الكافيتريا التي كنت أرتادها مع ناهد.. المقاعد.. الديكورات.. ملابس السقاة.. إنها هي بالتأكيد.. هل تبحث عن شخص ما ؟. أتى ذلك السؤال من خلفي يحمله صوت أنثوي رقيق.. إلتفت لأجد تلك الفتاة الجميلة جالسة وحدها.. أخذت أتأملها لوهلة مبهورا ً بجمالها و رقة ملامحها.. ثم تذكرت أن هناك سؤالا ً معلقا ً يجب أن أجيبه.. كلا.. أنا فقط أبحث عن مكان شاغر.. ببساطة و تلقائية لا يثيران أي ريبة.. أشارت إلى المقعد المواجه لها و هي تقول.. بإمكانك أن تشاركني مجلسي إذا أردت.. إذا أردت ؟! بالطبع أريد.. أنا لا أريد أن أسبب لك أي حرج.. إبتسمت برقة وقالت.. أنا هنا وحدي فلا مشكلة في ذلك.. و هكذا خلعت سترتي و فردتها فوق ظهر المقعد.. و شاركتها مجلسها.. طلبت من الساقي فنجان شاي.. أحضره لي.. و بدأنا نتحدث.. في أمور عامة أولا ً ثم بدأ كل واحد منا يتطرق إلى أموره الخاصة.. لوهلة بدت لي تلك الجلسة مشابهة لأول جلسة لي مع ناهد.. ذلك اليوم الذي طلبت فيه منها أن ترافقني إلى تلك الكافيتريا المجاورة للجامعة.. و بعد إلحاح و وساطة من صديقة مقربة لها وافقت.. و في تلك الكافيتريا التي أجلس فيها الآن تحدثنا كثيرا ً ربما في نفس المواضيع التي أتحدث فيها الآن مع تلك الفتاة.. الفارق الوحيد هو أن جلستي مع ناهد إنتهت بالمصارحة بالحب المتبادل.. في نهاية تلك الخواطر تذكرت أننا أنا و تلك الفتاة لم نتعارف بعد.. كانت تتحدث عن شيء ما لا أسمعه.. فقاطعتها.. هل قلت لي ما أسمك.. ؟ إبتسمت في حرج لا أدري ما سببه.. و قالت.. ناهد !!! خفق قلبي بقوة.. و بدا على ملامحي بعض التوتر كما يبدو لأنها لاحظت ذلك و تساءلت.. ما بك.. ؟ أخذت رشفة من الشاي ثم قلت.. شيء غريب.. أيام الجامعة كنت أحب فتاة أسمها ناهد.. و كنت أقابلها في هذا المكان.. إبتسمت بنفس الطريقة الرقيقة و هي تقول.. أنا أيضا ً كنت أحب شابا ً في الجامعة و كنا نلتقي هنا.. ثم إنفصلنا.. و اليوم هو ذكرى بداية إرتباطنا لذا أتيت إلى هنا.. وجدت نفسي أسألها.. ما إسمه ؟. أجابت.. أحمد.. شعرت بمزيد من الدهشة و لكنني هذه المرة أطلقت ضحكة خافتة و قلت.. هذا غريب بالفعل.. فأسمي أنا أيضا ً أحمد.. مطت شفتيها قائلة.. عادي إنه اسم منتشر.. ثم تابعت بعد فترة من الصمت.. إحكي لي عن حبيبتك.. شردت قليلا ً مع رشفة أخرى من الشاي.. و معها إستعدت كل الأحاسيس التي غابت.. ناهد ؟؟.. لا أدري ماذا أقول عنها.. إنه الحب فقط الذي أستطيع أن أتحدث عنه.. الحب هو كل ما اذكره من الوجه.. هو ما كان يطل من العينين مع النظرات.. و يتساقط من الفم مع الكلمات.. و يسري في الجسد مع اللمسات.. إنه الحب.. الحب البكر النقي الذي لم يعرف بعد العقبات و الصعاب و التقاليد و المصالح و المادة.. حب لا يبغي سوى الحب.. و حبيبان لا يبغيان سوى اللقاء.. قالت ناهد شاردة ً بدورها.. هو كما تقول.. الحب الخالص.. حب البراءة.. الحب الذي ولد لكي لا يصمد طويلا ً.. حب إن طال به الأجل لابد و أن يصطدم بما يجهل.. سيواجه و لابد ما لم يخلق لمواجهته.. وستكون هزيمته حتمية.. قلت لها محتدا ً.. هكذا أنتن.. لا تمتلكن أي قدر من الثقة في الحب أو في من أحببتن.. تتوقعن الهزيمة قبل أن تحدث و لذلك تحدث.. ردت محتدة بدورها.. ماذا تتوقع مني ؟. أن أنتظر الأعوام ؟.. حسنا ً.. ماذا قدمت أنت إلي لكي أنتظر.. وصلت لهجتي إلى قمة الحدة و أنا أصيح.. و هل أعطيتني أنت الفرصة حتى لأقدم لك أي ضمانات ؟. لقد عاملتني منذ البداية على أنني فاشلا ً.. و الحقيقة أنك أنت التي لا تنظرين حولك.. كل ما تريدينه هو الآن أو لا إلى الأبد.. ثم ساد صمت عميق لفترة إنهمكت خلالها في إنهاء رشفات قليله متبقية في فنجان الشاي.. قلت بعدها بصوت هادئ النبرات.. و هكذا إفترقنا.. هزت رأسها متفهمة.. ثم قالت.. و هكذا أيضا ً تركت أحمد.. فترة صمت أخرى رافقتنا.. هذه المرة رفعت رأسي نحو التلفاز.. كان يعرض نشرة الأخبار.. إنهمكت لفترة في متابعة بعض الأخبار عما يحدث في لبنان و في العراق و في فلسطين.. و مع مشاهد القتلى و الخراب شعرت برجفة غضب تجتاحني.. وجدتني أعود أعواما ً طويلة إلى الوراء.. أتذكر أيام الغضب في الجامعة.. وقت حرب الخليج.. كيف ثرنا و مزقنا حناجرنا غضبا ً.. كيف حولنا السخط لكلمات.. كيف إلتهبت في أعماقنا جزوات لم نكن ندرك أنها هناك.. وكيف شعرت وقتها بأنني أستحق مسمى ( شاب ).. ماذا فعلت بعدها ؟ هكذا قطعت ناهد فترة الصمت تلك.. لم أفهم المغزى من سؤالها.. طلبت منها إيضاح فقالت.. بعد أن تركت ناهد.. أجبتها.. كنت وقتها قد تخرجت من كلية الأداب.. عملت لأقل من عام مدرسا ً في مدرسة خاصة حتى جاءتني الفرصة الماسية.. عقد عمل جلبه لي أحد أقاربي من السعوديه.. سافرت.. و بعد عشرة أعوام عدت بالكثير من الأموال.. عملت بمدرسة خاصة أخرى حتى اكتشفت أن التعليم الخصوصي في هذه البلد أكثر رواجا ً و أوفر ربحا ً.. لذا إستثمرت مدخراتي في معهد كبير للدروس الخصوصية.. تحول في العام التالي إلى سلسلة معاهد.. و هكذا عشت في بحبوحة من الرزق.. و تزوجت منذ أقل من عام.. و هي ؟ سألتني ناهد.. فأجبتها.. تزوجت حسب ما سمعت.. هزت رأسها و هي تقول.. هذا ما توقعته.. الحياة تسير.. هززت رأسي بدوري متمتما ً.. أجل.. تسير.. قلتها و أنا أمد يدي لإخرج النقود من جيبي.. كنت قد إكتفيت من تلك الجلسة و لم أعد أشعر سوى بالرغبة في مواصلة رحلتي.. ولكن وبعد بحث متآن.. لم أجد معي أي نقود.. حتى محفظتي إختفت.. هذا ما كان ينقصني تلك الليلة.. لاحظت ناهد ما يحدث.. ببساطة مدت يدها إلى حقيبتها قائلة.. فنجان الشاي هذا على حسابي.. فأنا من دعوتك.. لم أجد ما أقول.. فأي محاولة مني للرفض لن تكون سوى مزحة.. لأنني في هذه اللحظة لا أمتلك مليما ً واحدا ً.. نادت ناهد الساقي لتحاسبه في حين شعرت أنا بكل خجل الدنيا يثقل رأسي.. في هذه اللحظة.. و بالصدفة البحتة.. إتجه بصري صوب الواجهة الزجاجية المطلة على الشارع.. فوجدت شخصا ً مألوفا ً يمر من أمام الكافيتريا.. كانت مفاجأة سارة و في وقتها.. بسرعة قلت لناهد.. لا تفعلي.. إنه الأستاذ ثروت المحاسب الذي يدير لي حسابات المعاهد.. إنتظري ثوان سوف أحضر منه بعض النقود.. و دون أن أنتظر أي رد منها.. إنطلقت في أعقابه..

5 المحطة الأخيرة..

أنا الآن أركض.. أركض.. و أركض.. و أركض.. و أركض.. كان ثروت يسرع الخطى أمامي.. بيني و بينه مسافة لا تضيق.. كلما أسرعت العدو كلما زادت المسافة إتساعا ً.. حتى النداء لم يجدي.. ثرواااات.. ثروااااااااات.. هولا يسمعني.. و أنا لا أدركه.. و لكنني أركض.. و أركض.. و أركض.. هكذا الحياة.. تجد.. تتعب.. تواجه.. تثابر.. تقاتل.. تكافح.. لا تعترف بالعقبات.. لا تدع شيئا ً يجذبك إلى الأرض.. الحياة سوف تستمر.. و التعب سوف يتواصل.. لذا يجب أن تتحول إلى سطح معدني بارد لا يلتصق به شيء.. يجب أن تتنكر لكل شيء.. الأفكار.. الأحلام.. المبادئ.. الطموح.. الحب.. الكره.. الغضب.. الحقد.. الحزن.. الفرح.. الغرور.. العطف.. القسوة.. الكبرياء.. الشرف.. إنها المسيرة الصعبة.. الرحلة الشاقة ولا شيء سواها.. لا تفكر سوى في قطع المسافات.. هذا ما تعلمته طوال سنوات الشقاء في الخارج.. هذا ما تعلمته بعد أن لفظني الحب.. و هكذا صرت ما أنا عليه الآن.. لا أهتم.. لا أبالي.. و العدو متواصل.. و ثروت لا يقترب أبدا ً.. مددت أصابعي أفتح الزرار العلوي للقميص بحثا ً عن المزيد من الهواء.. بدأ التعب ينال مني.. و لكنني و كعادتي دائما ً لم أهتم.. و واصلت العدو.. كنت قد نسيت سترتي في الكافيتريا.. اكتشفت ذلك و أنا أفك أزرار قميصي الواحد تلو الأخر بشكل لا شعوري.. حتى وجدت نفسي فجأة أركض بلا قميص.. و فجأة إنتهى الطريق.. وصلت إلى نهاية ذلك الشارع الطويل.. لا أثر لثروت.. و لكن أمامي كان هناك ما هو أفضل منه.. البحر.. أمامي مباشرة كان سور الكورنيش.. و خلفه بحر بلا نهاية.. تلك المساحة الشاسعة من المجهول.. قد تحمل الأمل.. و قد تحمل الوعيد.. و أمام مشهد البحر الساحر نسيت ثروت ونسيت كل ما مررت به في تلك الليلة العجيبة.. وبكل الراحة و الأمان الموجودان في الدنيا.. إتكأت على سور الكورنيش متأملا ً البحر.. ملأت رئتي بالهواء المنعش.. شعرت براحة تغمرني بلا حدود.. و كأن كل عناء السنين يغادرني الآن.. كل ما يتعلق بركاض الدنيا بدا لي الآن ذكرى بعيدة.. و كأنني أتأهب لمغادرة مكان ما سكنته طويلا ًَ.. هو كذلك.. قالها صوت أنثوي.. صوت قادم من خلفي.. قبل أن ألتفت لمواجهة صاحبة الصوت.. توقعت من هي.. شيء ما في أعماقي أخبرني أنها هي التي تقف ورائي الآن.. و بالفعل كانت هي.. تلك الفتاة التي قابلتها في الفرح.. الفتاة التي بدأت كل تلك الأحداث العجيبة من عندها.. كانت تبتسم لي بطريقة ساحرة.. بدوري إبتسمت لها.. و أنا أقول.. أعتقد أنك مدينة لي بالشرح.. هزت رأسها قائلة.. الأمر في غاية البساطة.. و لكنه من فرط بساطته شديد التعقيد.. أطلقت ضحكة قصيرة ثم قلت.. هذه فزورة.. إبتسمت لوهلة ثم اختفت إبتسامتها وهي تقول.. الأمر بسيط إذا فهم عقلك الضعيف ما مررت به الليلة.. و لكنه قد يكون معقدا ً إذا ما تمسكت بعناد غبي ببقايا حياة لم يعد لها وجود.. شعرت عندها بتوجس.. فسألتها متوترا ً.. ماذا تعنين ؟ بلهجة جافة أجابت.. أحمد يا ابن أدم.. أنت الآن ميت..

6 نهاية الرحلة..

ميت ؟! أنت مجنونة.. حافظت على نفس اللهجة الجافة وهي تتساءل.. لماذا ؟ محتدا ً صرخت.. لأنني حي.. أتكلم و أفكر و أشعر.. بهدوء قالت.. وما أدراك أن هذا لا يحدث للموتى .؟ صحت بمزيد من الحدة.. لأنه لا يحدث.. و قالت هي بمزيد من الهدوء.. و أنا أسألك.. كيف تعرف هذا و أنت لم تمت من قبل.. ؟ لم أجد ما اقول.. كنت أصدقها.. الكارثة أنني كنت أصدقها.. و لكن يجب أن أرفض.. يجب أن أعاند.. أنا لم أتخيل أن أموت الآن.. كاذبة حقيرة.. قالت بصبر.. أنا لست بكاذبة.. و أنت تعرف ذلك جيدا ً.. هنا بدأت دموعي تسيل.. هذا حق.. أنا ميت.. لماذا أنا ؟ أنا لازلت صغير السن.. و لكن يجب أن أستمر في العناد.. علها تيأس و تتركني لحالي.. و ما معنى كل ما رأيته الليلة ؟ أجابت.. حياتك.. هذه مرحلة إنتقالية.. مرحلة تهيئة لتلقي ما أنت مقبل عليه.. عبثا ً بحثت عن أي حجة أدحض بها إدعاءاتها.. ولكنني كنت أعرف سلفا ً أنني لن أجد.. لذا قلت.. و لكن كيف حدث هذا .؟ تقدمت خطوتين لتقف في مواجهتي تماما ً و هي تقول.. هكذا.. و مع كلمتها تغير المشهد.. إختفى البحر و الشارع و الكورنيش.. و وجدت نفسي مرة أخرى في فرح قريب زوجتي.. كنت واقفا ً معها في ركن ما من أركان القاعة.. قلت لها.. لقد عدت.. قالت لي.. كلا.. فأنت لم تغادر بعد.. قالتها ثم تنحت لليمين قليلا ً لتكشف لي الركن المقابل من القاعة.. وهناك كنت جالسا ً.. نفس المجلس مع نفس الأشخاص.. و من بعيد شاهدت علامات الملل ترتسم على وجهي.. كلا إنها علامات الألم.. أجل.. أنا أتألم.. شاهدت نفسي أحل رابطة العنق.. فتذكرت ما حدث بعدها.. الآن أنت سوف تأتين من خلفي.. قلتها للفتاة.. فهزت رأسها نفيا ً و هي تقول.. لن يحدث.. و بالفعل لم يحدث.. فقط شاهدت علامات الألم تزيد فوق وجهي.. و يدي تمتد لتمسك بكتفي الأيسر.. و فجأة نهضت واقفا ً ثم انطلقت نحو باب الحمام.. لم أستطع أن أمكث مكاني.. كان علي أن أعرف ماحدث لي.. لذا تركت الفتاة واقفة و إنطلقت نحو الحمام وراء نفسي.. ما أن دخلته حتى رأيتني واقعا ً أرضا ً بلا حراك و رغاوي تخرج من فمي.. لم أتمالك نفسي.. إنقضضت على جسدي الممدد فوق الأرض و إحتضنته بقوة.. حاولت أن أصيح طالبا ً النجدة.. فلم أدرى ما أقول.. إنجدوه.. أم إنجدوني.. فصحت.. إنجدونااااااااااا..

هنا كانت الفتاة قد أدركتني في الحمام.. ما أن رأيتها حتى إنفجرت دموعي كالشلال.. أنقذيني.. أرجوك أنقذيني.. أنا لا أريد أن أموت.. و بصعوبة سمعتها و هي تقول.. لا تحاول.. لقد قضي الأمر.. عندها وجدت نفسي مرة أخرى أمام شاطئ البحر.. مفترشا ً الأرض هذه المرة باكيا ً كما لم أبك في حياتي.. و كانت هي تقول.. إنها أزمة قلبية مفاجئة.. لقد كان قلبك مريض و لكنك لم تكتشف ذلك.. لم أجد ما أقول.. من كثرة ما لدي من أسئلة.. أريد أن أسأل عن مصيري.. عما سيحدث لي.. عن زوجتي.. و لكن الكلام لا يخرج من فمي.. مع ذلك بدأت تجيبني.. بالنسبة لزوجتك فهي لم تكتشف بعد.. الفرح لايزال صاخبا ً و الجميع ملهيون.. و أنت لاتزال ملقى فوق أرضية الحمام.. أما ما سيحدث الآن.. فأنا قد أنهيت مهمتي معك.. و الآن سوف يأتوا ليأخذوك حسب ما قدمت لأخرتك من أعمال.. ثم فردت يدها مشيرة نحو الأفق خلف البحر الأسود.. أنظر إنهم قادمون.. هيا.. قم و أنظر.. لتعرف مصيرك..

أحمد الملواني

التعليق:
أنا سعيد بأنك تركت لإمكانياتك في الحكي أن تنطلق. قد لا يكون ذلك استجابة لنصيحتي السابقة لك، لكن على كل حال مناسب لك جداً.
نصك هذا نص جميل جداً، يمزج بين الواقعي والخيالي لكنه شديد الإحكام والدقة.
أرجوك اهتم بتصحيح أخطائك النحوية. كذلك أقترح عليك أن تضع العناوين الفرعية (1،2،3....) في منتصف سطر جديد

د. سيد البحراوي
أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.