لا يختلف اثنان، ولا يتناطح عنزان، حول أن الثقافة المصرية، شكلت في العصر الحديث، جانبًا كبيرًا من وعى ووجدان الشعوب العربية عبر أعلامها في الأدب والفنون والثقافة، ورموزها الفكرية ونوابغها في العلوم الطبيعية والإنسانية، ولأن بقاء الحال من المحال، فقد تراجع دور القوة الناعمة المصرية، بشكل لافت، على خلفية إهمالها وتجاهل تأثيرها، وغدت البذاءة والسطحية والاستسهال عنوانا للإنتاج العقلى والفكرى في السنوات الأخيرة وصارت القوة الناعمة المصرية، أثرا بعد عين، وأطلالا لن يجدى البكاء عليها، لم يعد لدينا أدباء في وزن "نجيب محفوظ" و"يحيى حقى" و"عباس العقاد"، و"طه حسين"، والآن أصبح لدينا "أحمد ناجى"، و"فاطمة ناعوت"، وقديما كان لدينا مفكرون وفلاسفة في قيمة "محمد عبده"، و"مصطفى محمود" و"محمود شلتوت"، وأصبح لدينا الآن "إسلام بحيرى"، و"الشيخ ميزو"، كان لدينا قراء عباقرة للقرآن الكريم مثل "مصطفى إسماعيل" و"عبد الباسط" و"الحصرى"، يجوبون العالم كله، يتلون كتاب الله بأصواتهم الندية، والآن عقمت بطون النساء عن أن تلد مثلهم، وأصبح المصريون يستمعون للأصوات القادمة من أرض الوهابيين، كان لدينا سينما ومسرح وموسيقى ومطربون يرفعون اسم مصر عاليا في المحافل والفعاليات الدولية، ولم يعد لدينا سوى "السبكى" وأفلامه، و"تياترو مصر"، و"وأوكا" وأورتيجا"، و"ولاد سليم اللبانين"، كان الإعلام المصرى حاضرا ومؤثرا في الداخل والخارج، قبل الثورة التكنولوجية والتقنيات الهائلة، وبعدها صارت بضاعتنا "أحمد موسى" و"خالد عليش"، وساء أولئك رفيقا، الكتب الإبداعية تتلاشى، والسيادة صارت للكتب الصفراء وكتب الدجل والشعوذة وتحضير الجان، التعليم المصرى يتراجع بقوة للخلف، لا وجود له في قوائم "الأفضل"، مصر فقدت دورها الرائد في استقبال الوفود الدراسية، وتصدير الكفاءات العلمية، وأصبحت أرضا خصبة لتيارات العنف والتطرف والتشدد والجهل، المشهد أصبح سخيفا، الأمر يبعث على التشاؤم بلا أدنى مبالغة!. وبحسب كتاب "القوة الناعمة.. وسيلة النجاح في السياسة الدولية" للكاتب "جوزيف ناى"، فإن القوة الناعمة، سلاح مؤثر يحقق الأهداف عن طريق الجاذبية والإقناع بدل الإرغام أو دفع الأموال، وموارد القوة الناعمة لأى بلد هي ثقافته إذا كانت تتمتع بالقدر الأدنى من الجاذبية، وقيمه السياسية عندما يطبقها بإخلاص داخليًا وخارجيًا، منوها إلى أن دويلة صغيرة مثل "قطر" جعلت لنفسها تأثيرا مدويا عبر شبكة "الجزيرة"!! ولا تعنى القوة الناعمة أن أدوات القوة الصلبة تختفي، لكن القوة الناعمة لها لحظتها المناسبة، وهى في الغالب تعمل في إطار من التبادل والتوافق مع أدوات القوة الصلبة الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وإلا كانت النعومة مرادفة للضعف والعجز، فلا تكون بذلك خيارا بل تكون اضطرارا، وهو ما يفقدها في الغالب قوتها حتى في بعدها الرمزي، فتندرج تحت بند العلاقات العامة أكثر منها العلاقات السياسية بمعناها المركب، وتنأى عن العلاقات الدولية بالمفهوم العلمى الدقيق، ومن ثم.. فإن مفهوم القوة الناعمة ليس مفهوما ثابتا، بل تتغير القوة الناعمة بتغير وسائط وأدوات التأثير الثقافى وتحولاتها النوعية في ظل تحولات مفهوم المكان والجغرافيا، لذا.. وفى ضوء ماحدث في مصر خلال السنوات الأخيرة لا بد من إحياء القوة الناعمة مجددا، الاهتمام والارتقاء بها ليس ترفا، بل أصل من أصول المجتمعات المتقدمة، الاعتزاز بأمجاد الآباء لا يبنى مجدا جديدا، بل هو وسيلة العاجزين والضعفاء ومعدومى الحيلة والثكالى، الدبلوماسية المصرية صارت ثقيلة الظل، والدبلوماسية الشعبية مرتبكة، لم تعد مصر تملك شعارًا يضاهى شعار ‘النهوض القومي' الذي رفعته في عصر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، أو شعارًا فضفاضًا في مستوى ‘السلام والانفتاح' الذي رفعته في عصر الزعيم أنور السادات، في وقت تتوهج فيه دول ناشئة مثل الإمارات العربية المتحدة، التي تولت قوتها الناعمة اهتماما غير محدود تزامنًا مع اعتراف رسمي مؤلم بأن مصر تحولت إلى «شبه دولة» !! وإجمالا، فإن مصر تملك كل مقومات القوة الناعمة، فهى تملك التاريخ كرصيد حضاري، وتملك الموقع والثقل الديمجرافى في قلب الأمة العربية، وتملك المؤسسة الدينية البارزة، وهى الأزهر بما يمنحها مكانة إسلامية، وتملك الامتداد في قلب القارة الأفريقية، وتملك العقول والسبق العلمى في المنطقة العربية والريادة الفكرية والثقافية، والتجربة الليبرالية الأقدم في العالم العربي، ولا شك أن ضرب مقومات القوى الناعمة في الداخل لفرض السيطرة والتحكم هو تبديد لفرص القوة الناعمة في الخارج، وآن الآوان لتنهض من حالة الانحسار والانزواء الذي عانته مصر الإقليمية على مدى العقود الأخيرة، كى يتناسب ومكانة مصر التاريخ والحاضر والمستقبل.. فهل أنتم فاعلون؟